الذهب يعيد تشكيل النظام النقدي العالمي.. والأزمات الجيوسياسية تدفعه للصدارة الذهب يتفوق على اليورو كأصل احتياطي عالمي: قراءة في تحولات الاقتصاد العالمي وتأثير التوترات الجيوسياسية.
في تطور لافت للنظام النقدي العالمي، كشف تقرير رسمي صادر عن البنك المركزي الأوروبي أن الذهب تجاوز للمرة الأولى اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي عالمي للبنوك المركزية بعد الدولار الأمريكي.
ووفقًا للإحصاءات الصادرة منذ أيام، بلغ نصيب الذهب من الاحتياطيات الرسمية العالمية نحو 20%، متقدمًا على اليورو الذي تراجع إلى 16%، بينما واصل الدولار الأمريكي تصدر المشهد بنسبة 46%، هذا التحول التاريخي لم يكن عابرًا ولا وليد الصدفة، بل جاء مدفوعًا بموجة شراء قياسية للذهب من قبل البنوك المركزية، التي استحوذت خلال عام 2024 وحده على أكثر من 1000 طن من المعدن الأصفر، وهو ما يعادل 20% من الإنتاج العالمي السنوي.
اللافت أن هذا التحول لم يقتصر على السياسات الاحتياطية فقط، بل انعكس أيضًا على حركة الأسعار؛ حيث قفزت أسعار الذهب بنسبة 30% في 2024، قبل أن تستمر بالصعود خلال النصف الأول من 2025 بنسبة تقارب 27%، وصولًا إلى مستويات تاريخية عند حدود 3500 دولار للأونصة. لماذا الآن؟
التحليل الاقتصادي لهذا التحول يبرز أن البنوك المركزية حول العالم وجدت في الذهب ضالتها المنشودة، خاصة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية والمخاوف المتزايدة من العقوبات الاقتصادية والمخاطر المرتبطة بالعملات الورقية.
هناك ثلاثة عوامل رئيسية دفعت الذهب ليتصدر الاحتياطيات العالمية:
1. الأمان والسيولة: الذهب أصل خالٍ من مخاطر الطرف المقابل، ولا يخضع لأي التزامات مالية أو قانونية، فضلًا عن تمتعه بسيولة مرتفعة عالميًا.
2. التحوط ضد التضخم وفقدان القيمة: في الوقت الذي تواجه فيه العملات الورقية ضغوطًا تضخمية، يبقى الذهب محتفظًا بقيمته الشرائية عبر الزمن.
3. ملاذ آمن في الأزمات: مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، مثل الأزمات المستمرة في منطقة الشرق الأوسط، تزداد شهية البنوك المركزية والمؤسسات الكبرى للذهب كأصل احتياطي بعيد عن تقلبات السياسة والاقتصاد.
الطلب يرتفع.. وهذا السبب برأي أن التحول المتسارع نحو الذهب يعكس إدراكًا عالميًا متزايدًا لضرورة تقليل الاعتماد على العملات الغربية، خاصة مع تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، أبرزها ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط من صراعات وحروب بالوكالة وتهديدات لأمن الطاقة.
والمشهد الحالي يعيد تشكيل قواعد اللعبة في أسواق المال العالمية، حيث أصبح الذهب ليس مجرد مخزن للقيمة، بل عنصرًا استراتيجيًا في إدارة الأزمات المالية والسيادية ويجب التنويه إلى أن العديد من الدول الكبرى والصاعدة، خصوصًا تلك المعرضة لعقوبات اقتصادية أو تبحث عن استقلال نقدي، باتت تفضل تعزيز احتياطياتها من الذهب كخيار يحمي سياساتها النقدية من الاضطرابات المفاجئة في النظام المالي العالمي.
هناك مؤشرات قوية على أن موجة الشراء الحالية من قبل البنوك المركزية لن تتوقف قريبًا، ويعزز هذا الاتجاه استمرار حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية، برأي إذا استمرت البنوك المركزية في نهجها الحالي، فمن المرجح أن نشهد مستويات قياسية جديدة لأسعار الذهب خلال السنوات المقبلة، وربما يتجاوز حاجز الـ4000 دولار للأونصة قبل نهاية العقد الجاري.
الصراعات المتزايدة في الشرق الأوسط، وما يصاحبها من اضطرابات في أسواق الطاقة وسلاسل التوريد العالمية، ستضيف مزيدًا من الزخم لهذا الاتجاه، والذهب اليوم ليس مجرد معدن ثمين أو مجرد أصل احتياطي تقليدي، بل أصبح ركيزة أساسية في هيكل النظام النقدي العالمي الجديد الذي يتشكل تحت ضغط الأزمات والتوترات.
ما نشهده الآن قد يكون مقدمة لتحولات أعمق في سياسات الاحتياطي النقدي للدول، في ظل عالم يميل أكثر نحو الحذر والاستقلال النقدي بعيدًا عن سيطرة العملات الورقية التقليدية. والسؤال الآن: هل أصبح الذهب عملة المستقبل؟ والأيام المقبلة وحدها ستحمل الإجابة.