تزخر ليبيا بتراث غني من الحُليّ والمجوهرات التقليدية، إلا أن المصادر التي تناولت هذا الإرث قليلة للغاية، ومع صدور كتاب «Jewelry and Adornment of Libya» للباحثة هالة غلالي، بات هذا الفراغ العلمي موضع معالجة جادة، إذ يقدم الكتاب إضافة نوعية على أكثر من مستوى.
رؤية شخصية تتحول إلى مرجع بحثي
هالة غلالي، مؤلفة الكتاب، تنحدر من ليبيا، ونشأت في العاصمة طرابلس، حيث تعرّفت لأول مرة على المجوهرات الفضية في شبابها عندما اصطحبها والدها إلى السوق لشراء أساور فضية، هذه الذكريات الشخصية شكّلت نقطة الانطلاق في كتابها، غير أن خلفيتها العلمية والثقافية أوسع بكثير. فقد درست في طرابلس، ثم واصلت تعليمها في فرنسا، وانتقلت لاحقًا إلى إيطاليا ومصر وسوريا، قبل أن تستقر في الولايات المتحدة.
اهتمامها بالتاريخ الليبي المادي واللامادي—من الشعر والأمثال وحتى الزخارف والمعتقدات—انعكس بوضوح في سنوات من البحث الميداني والتوثيق المتخصص في مجال الحُليّ والزينة.
مرجع متعدد اللغات والمصادر
أحد أبرز ما يميز الكتاب هو ثراؤه بالمراجع. فهو يوثق مصادره بدقة، مستعينًا بمراجع عربية، وإيطالية، وفرنسية، وإنجليزية، كما يشير بوضوح إلى كل معلومة وأي صائغ فضة قدّمها أو رواها، هذا الجانب البحثي يضع الكتاب في مصاف المراجع الأكاديمية، ويجعله مختلفًا عن مؤلفات سابقة مثل كتاب «Libyan Jewellery – A Journey Through Symbols» لإلينا شينوني ألبيريني (1998)، الذي اكتفى بفهرس مراجع دون توثيق تفصيلي.
هذا التنوع في المصادر أنتج عملاً يقدم للقارئ خلفية اجتماعية وثقافية وتاريخية متكاملة، ويمنح سياقًا غنيًا لفهم المجوهرات بعيدًا عن النظرة السطحية التي تقتصر على الشكل.
الجزء الأول: عالم الصاغة
يفتتح الكتاب بثلاثة فصول مخصصة لتاريخ صياغة الفضة في ليبيا، ويغوص في تفاصيل غير مسبوقة حول إنتاج المجوهرات، بدءًا من الشواهد الأثرية ومذكرات الرحالة، وصولًا إلى سجلات التجارة التي تكشف عن الأسعار وأساليب البيع والشراء.
من بين الأمثلة اللافتة التي يوردها الكتاب، العلاقة الوثيقة التي جمعت بين مجتمعات الصاغة اليهود في طرابلس ونظرائهم في جزيرة جربة التونسية. هذه الروابط الإقليمية، التي تجاهلتها الحدود الاستعمارية اللاحقة، أنتجت شبكة تبادل ثقافي وحرفي، إلى حد أن كثيرًا من حُلي الجنوب التونسي حُملت أختامًا مصدرها طرابلس.
كما يتناول الكتاب تنظيم النقابات الحرفية، وأسماء التقنيات التقليدية، ومصطلحات العمل المتداولة لدى الصاغة المسلمين واليهود على السواء، مع تحليل لتأثير التحولات السياسية والاقتصادية في هذا القطاع.
ويولي المؤلف اهتمامًا خاصًا بموضوع الدمغة (Hallmarks) التي كانت تُستخدم لتمييز القطع، موضحًا تطورها خلال الحقبة الاستعمارية الإيطالية وبعدها، ومبينًا الفرق بين أختام الفحص الرسمية وعلامات الصاغة الشخصية.
الجزء الثاني: الحُلي من الرأس إلى القدم
يضم القسم الأوسط عشرة فصول كاملة تستعرض أنواع المجوهرات: من تيجان الرأس إلى أزرار الصدريات، مرورًا بالأحزمة والخلخال والأحذية المزخرفة، كل قطعة تُعرض باسمها المحلي، مصحوبة بأشعار وأمثال ومقتطفات من الأغاني الشعبية، مع شرح لأصولها اللغوية ودلالاتها.
ولا يقتصر الكتاب على وصف القطع، بل يقدم لمحة عن العادات اليومية، والمعتقدات، والمناسبات التي ارتبطت بها. الصور الفوتوغرافية تحتل مكانة محورية في هذا الجزء، وتشمل مقتنيات خاصة لم تُنشر من قبل، إضافةً إلى صور توثّق طريقة ارتداء هذه الحُلي في الواقع.
الجزء الثالث: عادات الزواج في طرابلس
يختتم الكتاب بفصل يرصد تقاليد الزينة في حفلات الخطوبة والزفاف في طرابلس، مدعومًا بصور أرشيفية قديمة لمراسم حقيقية. هذا التوثيق يُعدّ إضافة نوعية، إذ يحفظ عادات بدأت تختفي مع تغير أنماط الحياة.
سباق مع الزمن لإنقاذ الذاكرة
تُبرز الخاتمة التحديات التي واجهت هالة غلالي في إنجاز هذا العمل، فإلى جانب صعوبة الوصول إلى الأرشيفات بعد عام 2011، كانت هناك معضلة أكبر: رحيل الجيل الأخير من الحرفيين والنساء اللواتي يحملن ذاكرة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
ولذلك، يضم الكتاب ملحقًا بأسماء صاغة فضة وذهب طرابلسيين، بهدف حفظ أسمائهم كجزء من التراث حتى وإن كانت تفاصيل أعمالهم أو أختامهم ما تزال بحاجة إلى بحث مستقبلي.
قاموس مصطلحات وملاحظات نقدية
يتميز الكتاب أيضًا بقاموس من أربع صفحات يضم مصطلحات المجوهرات باللهجة الليبية، مما يجعله أداة قيمة للباحثين.
أما من حيث الملاحظات النقدية، فيقترح المراجعون إضافة خريطة توضيحية لمواقع المدن المذكورة، مع دعم أكبر للأدلة الأثرية التي تشرح رموزًا مثل «مثلث تانيت» أو «الصليب داخل دائرة»، كما أن استخدام خط أخضر للاقتباسات قد يضعف من وضوح بعض النصوص. ومع ذلك، تبقى هذه ملاحظات شكلية أمام القيمة العلمية الكبرى للكتاب.
مرجع رائد للباحثين والمهتمين
رغم أن المؤلفة لم تسعَ إلى إعداد «كتالوج شامل»، فإن كتاب «Jewelry and Adornment of Libya» يضع معيارًا جديدًا في دراسات الحُلي التقليدية الليبية، بفضل ثرائه بالمصادر، وعمق تحليله، وتوثيقه الدقيق، إنه ليس مجرد عرض لمجوهرات تقليدية، بل وثيقة حية للسياق الاجتماعي والثقافي والتاريخي الذي وُلدت فيه هذه القطع.