لطالما نجحت شركة “دي بيرز“، أكبر شركة لتعدين الألماس في العالم من حيث القيمة، في إقناع العالم بأن الحب الحقيقي لا يكتمل إلا بألماس طبيعي مستخرج من باطن الأرض، فقد كانت تلك الأحجار الثمينة تمثّل أكثر من مجرد جمال؛ كانت معجزة طبيعية تشكّلت على مدى مليارات السنين، واستُخرجت من أماكن نائية على يد شركات مثل دي بيرز نفسها.
هذا الغموض والسحر ضمنا هيمنة الألماس الطبيعي على السوق لأكثر من قرن، لكن هذه الهيمنة باتت تتلاشى بسرعة، مع بروز الألماس المصنع في المختبر — المطابق كيميائيًا وبصريًا للألماس الطبيعي — ليُعيد تعريف معنى “الألماس الحقيقي”.
أجراس إنذار في الصناعة
باتت الأحجار الصناعية، التي تُنتَج تحت ضغط وحرارة مرتفعين في بيئات خاضعة للسيطرة، أمرًا معتادًا بعد أن كانت تثير الدهشة في البداية، فهي متوفرة على نطاق واسع، وتزداد إتاحتها بأسعار معقولة، وهو ما يزلزل أسس صناعة الألماس العالمية.
اليوم، تُنتج مقاطعة “خنان” الصينية أكثر من 70% من الألماس المصنع المستخدم في المجوهرات حول العالم، وينتهي المطاف بالعديد منها في خواتم الخطوبة، خاصة في الولايات المتحدة.
في عام 2022، بدأت متاجر “وولمارت” بيع الألماس المصنع، وبحلول عام 2024، شكّل نصف مجموعتها من الألماس، مع قفزة بنسبة 175% في المبيعات مقارنة بالعام السابق، مما جعلها ثاني أكبر بائع للمجوهرات الفاخرة في البلاد بعد “ساينت”.
هذا النمو السريع أثار قلق بعض اللاعبين التقليديين في القطاع، حيث صرّح يورام دفاش، رئيس الاتحاد العالمي لبورصات الألماس، بأن الألماس الصناعي بات يهيمن على خواتم الخطوبة الجديدة في أمريكا، محذرًا من “تدفق غير مسبوق” لهذا النوع من الأحجار، وداعيًا الصناعة إلى التكاتف للرد.
مرحلة إعادة تموضع
لا يرى الجميع في هذا التحول تهديدًا وجوديًا، فالمحلل المستقل بول زيمنسكي يعزو التراجع الأخير إلى تصحيح الطلب بعد جائحة كوفيد، والتباطؤ في قطاع السلع الفاخرة في الصين، وصعود الألماس الصناعي، ويظل زيمنسكي متفائلًا بحذر، مشيرًا إلى أن الألماس المصنع يمثل الآن أكثر من 20% من سوق مجوهرات الألماس عالميًا، بعدما كان أقل من 1% فقط في 2016.
وفي سوق خواتم الخطوبة، فإن الحصة السوقية أعلى من ذلك، حيث كشف استطلاع أُجري عام 2024 وشمل نحو 17 ألف زوجين أمريكيين (من قبل موقع The Knot) أن أكثر من نصف خواتم الخطوبة احتوت على ألماس مصنع، مقارنة بـ40% فقط في 2019.
ويؤكد زيمنسكي أن مستقبل الصناعة يعتمد على التسويق: “إذا تهاونت الصناعة وتاهت عن هدفها التسويقي، فكل الرهانات تصبح بلا قيمة”، حسب تصريحه لموقع Mining.com في وقت سابق هذا العام.
دي بيرز في قلب العاصفة
باتت الأنظار تتجه مجددًا نحو شركة دي بيرز، التي كانت ذات يوم رمزًا للندرة والفخامة، لكنها الآن معروضة للبيع، فقد خفّضت الشركة الأم “أنجلو أمريكان” من قيمتها بنحو 4.5 مليار دولار خلال عام واحد فقط، ورغم عدم تقدم أي مشترٍ حتى الآن، تشير تقارير إلى أن بوتسوانا تسعى لشراء حصة حاكمة.
وفي مايو الماضي، أعلنت دي بيرز إغلاق علامتها التجارية “لايت بوكس” المختصة بالمجوهرات المصنعة من الألماس المختبري، في خطوة واضحة لإعادة الالتزام بالألماس الطبيعي، وتراهن الشركة على إعادة سرد رواية تركز على “الندرة والرومانسية”، على أمل أن يُعيد ذلك إحياء الطلب ويثبت الأسعار.
لكن تسويق هذه الرواية بات أصعب من أي وقت مضى، فالألماس المصنع مطابق كيميائيًا وبصريًا للألماس الطبيعي، وحتى خبراء الأحجار الكريمة يحتاجون إلى أجهزة متخصصة للتمييز بينهما، الفرق الحقيقي الآن يكمن في القصة، لا في التركيب.
قيمة قابلة للنقاش
رغم التشابه التام في المظهر، فإن الألماس المصنع غالبًا لا يحتفظ بقيمته، إذ يمكن للألماس الطبيعي أن يُباع في السوق الثانوية بسعر يعادل 20% إلى 60% من قيمته الأصلية، في حين لا يتجاوز سعر الألماس المصنع عادة 10% إلى 30%، وأحيانًا أقل.
وفي مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال، حذّر الرئيس التنفيذي لدي بيرز، آل كوك، من أن انخفاض أسعار الألماس المصنع سيستمر مع تزايد الإمدادات، مشبهًا مصيره بمصير أحجار الزركونيا والمواسانايت، التي تُعرف بسهولة بأنها تقليد رخيص.
وفي يونيو الماضي، تم توقيع “اتفاق لواندا” لتجميع الموارد وتعزيز الجهود التسويقية العالمية للألماس الطبيعي، بقيادة مجلس الألماس الطبيعي، ويتضمن الاتفاق تخصيص 1% من عائدات الألماس الخام لصندوق تسويق عالمي، أُطلقت بموجبه سلسلة أفلام قصيرة وموقع إلكتروني جديد لتدريب موظفي البيع بالتجزئة على سرد مزايا الألماس الطبيعي.
يُذكر أن حملة سابقة وُصفت فيها الأحجار المصنعة بأنها “مقلدة” وشجعت المستهلكين على “تجاهلها” عبر مصطلح “Swipe Left”، كانت قد قوبلت بانتقادات شديدة وتم سحبها.
تغيّر القيم
ورغم تمسّك التقليديين بالسرديات القديمة، فإن الثقافة الاستهلاكية تتغير، فالمستهلكون الشباب أصبحوا أكثر اهتمامًا بمصدر الألماس والأبعاد الأخلاقية المرتبطة به، ويريدون ضمانات بأن مشترياتهم لا تُموّل صراعات أو تستغل العمال، لذلك، تحوّل متجر المجوهرات الدنماركي “باندورا” بالكامل إلى بيع الألماس المصنع منذ عام 2021، مستشهدًا بالاعتبارات البيئية والاجتماعية والأسعار المنخفضة.
وأشار زيمنسكي إلى أن اقتصادات مثل بوتسوانا وكندا وناميبيا وأنجولا وروسيا، والتي تعتمد بشدة على سوق الألماس، تقف أمام تحديات كبيرة.
وأضاف:”الألماس سلعة فاخرة، ويجب الترويج له كمنتج فاخر، ويتوجب على جميع الأطراف المعنية أن تشارك في صياغة الرسالة”.
ورغم تراجع بريق الألماس الطبيعي، إلا أن الرغبة في اقتناء شيء ذي معنى لا تزال حاضرة، وللحفاظ على مكانة الألماس في العصر الحديث، على الصناعة أن تنتقل من رواية “الإرث” إلى سردية “الشرعية” — تستبدل الأساطير القديمة بقيم معاصرة.