في مشهد غير مسبوق منذ عقود، أطلّ الذهب على الأسواق العالمية في النصف الأول من عام 2025 كأقوى الأصول أداءً، بعدما قفز بنسبة 26% بالدولار الأمريكي، ليسجل بذلك واحدة من أسرع موجات الصعود في تاريخه الحديث، وفقًا لتقرير حديث صادر عن مجلس الذهب العالمي.
الذهب لم يكتفِ فقط بمكاسب قوية، بل حقق أيضًا 26 قمة سعرية جديدة في ستة أشهر فقط، لتُضاف إلى سلسلة من 40 قمة قياسية سبق أن حققها في عام 2024، ما يثير تساؤلات جوهرية، هل بلغ الذهب قمته بالفعل؟ أم أن الطريق ما زال مفتوحًا لمزيد من المكاسب؟
محركات الصعود: الدولار، السياسة، والمخاوف
كان ضعف الدولار الأمريكي في صدارة المحركات التي دفعت الذهب إلى الأعلى، حيث سجّل مؤشر العملة الأمريكية أسوأ أداء له منذ عام 1973. تزامن ذلك مع استمرار التوترات الجيوسياسية، خاصة في ظل احتدام الصراعات التجارية وغياب الوضوح في السياسات الاقتصادية، ما دفع المستثمرين إلى الاحتماء بالذهب كملاذ آمن.
الطلب على الذهب تجاوز القنوات التقليدية، حيث شهدت الأسواق خارج البورصة (OTC) وصناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) مستويات نشاط مرتفعة رفعت متوسط التداول اليومي إلى 329 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق.
كما ساهمت البنوك المركزية العالمية، على الرغم من تراجع وتيرة الشراء مقارنة بفصول سابقة، في دعم الاتجاه الصعودي للذهب، لتبقى فوق متوسط الشراء التاريخي.
منتصف العام: السيناريوهات الثلاثة الممكنة
مع دخول النصف الثاني من العام، يقف الذهب أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية، بحسب تحليل مجلس الذهب العالمي:
▪️ السيناريو الأول: “الاستقرار النشط”
في حال استمرت الأوضاع الاقتصادية العالمية في مسارها الحالي، دون مفاجآت حادة، فإن الذهب مرجّح أن يتحرك في نطاق جانبي مع هامش صعود طفيف يتراوح بين 0% و5%.
تُشير التوقعات إلى بدء تخفيض الفائدة الأمريكية بنحو 50 نقطة أساس قبل نهاية العام، واستمرار حالة الغموض الجيوسياسي، ما يُبقي على الطلب الاستثماري دون تغيير جوهري.
▪️ السيناريو الثاني: “الركود والمخاطر”
إذا تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل مفاجئ — نتيجة تفاقم التضخم، أو نشوب أزمات جديدة، أو دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود — فإن الذهب قد يقفز مجددًا بنسبة 10% إلى 15%، ما يرفع مكاسبه السنوية إلى نحو 40%.
هذا السيناريو يدعم بشكل قوي تدفقات المستثمرين نحو صناديق الذهب، ويُنعش الطلب لدى البنوك المركزية التي تسعى إلى تنويع احتياطاتها بعيدًا عن الدولار.
▪️ السيناريو الثالث: “انفراج المخاطر”
على الجانب الآخر، في حال تحقّق تحسّن واسع ومستدام في العلاقات الجيوسياسية، وبدأت مؤشرات الثقة في الأسواق بالتحسن، فقد نشهد تصحيحًا هبوطيًا يتراوح بين 12% و17% في أسعار الذهب.
في هذه الحالة، يعود المستثمرون إلى الأصول عالية المخاطر، وتزداد جاذبية السندات الأمريكية مجددًا، ما يُقلّص من إقبال المستثمرين على الذهب.
لماذا الذهب ما زال “محميًا” حتى في أسوأ الأحوال؟
رغم احتمال تراجع الأسعار في بعض السيناريوهات، إلا أن هناك عوامل تحد من الانخفاضات الحادة، أبرزها:
-
مستوى 3000 دولار للأوقية الذي يُعتبر حاجزًا نفسيًا وفنيًا للمستثمرين.
-
أي انخفاض كبير في السعر سيعيد تنشيط الطلب الاستهلاكي، خاصة في الأسواق الناشئة.
-
تراجع السعر قد يحد من عمليات إعادة التدوير، ما يقلل من المعروض المتاح.
نظرة على العملات: أين كانت المكاسب الأقوى؟
حتى نهاية يونيو 2025، تفاوت أداء الذهب عبر العملات، مسجلًا أعلى مكاسبه في الليرة التركية (+41.9%)، واليوان الصيني (+23.8%)، في حين حقق +10.7% في اليورو و+14.8% في الجنيه الإسترليني.
ما الذي ينتظر الذهب؟
تظل العوامل الكلية هي كلمة السر لمستقبل الذهب في ما تبقى من 2025:
-
استمرار ضعف الدولار يعزز الصعود.
-
تفاقم التوترات الجيوسياسية يدفع المستثمرين نحو الملاذات.
-
تيسير السياسات النقدية عالميًا يشجع على الاحتفاظ بالذهب.
لكن بالمقابل، أي تحسن واضح في النمو العالمي، أو استقرار طويل الأمد في أسعار الفائدة وتهدئة سياسية، قد يحدّ من زخم الذهب.
رغم صعوبة التنبؤ بمسار الذهب بدقة، إلا أن أدائه في النصف الأول من 2025 يُشير إلى أنه ما زال أداة استثمارية فعالة ومطلوبة في بيئة تتسم بعدم اليقين.
وفي الوقت الذي تعيد فيه الأسواق النظر في مفاهيم “الاستثناء الأمريكي”، وتتصاعد فيه المخاوف من تآكل ثقة المستثمرين في الأدوات التقليدية، يظل الذهب حارس الثروة الأقدم… والأكثر ثباتًا.