يشهد الدولار الأمريكي تراجعًا حادًا منذ بداية العام، متداولًا حاليًا بالقرب من أدنى مستوياته منذ سنوات، لكن هذا التراجع ليس سوى جزء من اتجاه طويل الأمد يعزز الدعم السياسي لسياسات “المال السليم” واعتماد نظام نقدي مدعوم بأصول ملموسة مثل الذهب والفضة.
في مقابلة مع موقع كيتكو نيوز، قال جيه بي كورتيس، المدير التنفيذي لرابطة الدفاع عن المال السليم Sound Money Defense League، إن 10 ولايات أمريكية أقرّت هذا العام تشريعات تتعلق بالمال السليم، بينما تناقش 20 ولاية أخرى قوانين مشابهة.
إلغاء ضرائب المبيعات على الذهب والفضة يشعل الحراك السياسي
يتزامن هذا الزخم السياسي مع قيام معظم الولايات الأمريكية بإلغاء ضريبة المبيعات على شراء الذهب والفضة، فيما تناقش ولايتا فيرمونت ونيو مكسيكو حاليًا تشريعات لإنهاء فرض الضرائب على السبائك، ولم يتبق سوى ولايتي هاواي وماين اللتين لا تزالان تفرضان تلك الضرائب.
وأشار كورتيس إلى أن تزايد دعم الذهب والفضة كـ”نقود حقيقية” أمر طبيعي في ظل التآكل المستمر في القوة الشرائية للدولار الأمريكي، حيث تُظهر بيانات بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس أن القوة الشرائية للدولار انخفضت بنحو 27% خلال العقد الأخير، فيما يمتد الاتجاه منذ عام 1933.
ديون متزايدة واستقلالية مالية للولايات
وبينما لا يُعد تدهور قيمة العملة ظاهرة جديدة، يرى كورتيس أن المزاج السياسي بلغ نقطة تحول، لا سيما مع معاناة المواطنين في تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وأضاف: “مع استمرار تصاعد الدين الحكومي، تتجه المزيد من الولايات الأمريكية نحو الذهب كوسيلة لحماية مواردها المالية والتعبير عن استقلالها عن السياسات النقدية الفيدرالية”.
وأوضح أن الاتجاه نحو التخلي عن الدولار لا يقتصر على الساحة الدولية فحسب، بل يمتد داخليًا في الولايات المتحدة نفسها.
وأكد: “الولايات تسنّ تشريعات لتقليل اعتمادها على ورقة الاحتياطي الفيدرالي، لصالح الأصول الملموسة كالذهب”.
نماذج متباينة بين الولايات: يوتا تنجح وآيداهو تفشل
ورغم أن أغلب السياسات لا تزال في مراحلها الأولى، حيث تركز على إلغاء الضرائب على الذهب والفضة، فإن بعض الولايات قطعت خطوات أوسع، بينما أخفقت أخرى.
واستشهد كورتيس بحالة ولاية آيداهو، التي أقرّ فيها المشرعون عام 2024 مشروع قانون يسمح لوزارة الخزانة في الولاية بالاستثمار في الذهب والفضة، إلا أن الحاكم براد ليتل قام باستخدام حق النقض “الفيتو” ضد القانون، ومنذ ذلك الحين، ارتفعت أسعار الذهب بنسبة 42%، بينما تراجع مؤشر الدولار الأمريكي بنسبة 5%.
في المقابل، كانت ولاية يوتا من أوائل الولايات التي تبنّت هذه السياسات، إذ أقرت قانونًا يسمح باستثمار ما يصل إلى 10% من صندوق الطوارئ في الذهب، والذي تبلغ قيمته الآن 180 مليون دولار، وفي بداية هذا العام، سمحت ولاية وايومنغ بالاحتفاظ بـ10 ملايين دولار من الذهب والفضة ضمن محفظتها الاستثمارية.
الابتعاد عن الديون الدولارية
وأوضح كورتيس: “الولايات بدأت تنظر في ميزانياتها وتقول: لدينا تعرض مفرط للديون المقومة بالدولار، والكثير منها يحقق عوائد سلبية بسبب التضخم، لذا علينا التفكير في أصول لها عوائد إيجابية وخالية من مخاطر الطرف المقابل، مثل الذهب والفضة”.
ورغم أن التشريعات تتقدم ببطء، إلا أن كورتيس يرى في هذا النهج التدريجي فرصة للناخبين والمشرعين لفهم مزايا الأصول النقدية الحقيقية، خاصة بعد إزالة الحواجز الضريبية التي كانت تعيق التعامل في الذهب والفضة.
وأضاف: “في السابق، كانت الحكومات تفرض ضريبة عند الشراء وأخرى عند البيع، ثم ضريبة ثالثة من الحكومة الفيدرالية، ما جعل الذهب والفضة يخضعان لما يشبه الضرائب الثلاثية، الأمر الذي عرقل العودة إلى نظام نقدي عادل، لكن الولايات تستطيع إزالة هذا العبء، وخلق سوق حقيقي للنقود”.
الهدف ليس منافسة الدولار، بل ضمان الشفافية
وأوضح كورتيس أن هدف رابطة الدفاع عن المال السليم — والمدعومة من Money Metals Exchange — ليس استبدال الدولار، بل تعزيز المساءلة لدى السياسيين من خلال منح المواطنين بدائل نقدية لا يمكن التلاعب بها بسهولة مثل العملات الورقية.
وقال: “من خلال منح الناس خيارات شرعية بديلة، قد يفضل المواطنون في نهاية المطاف أموالاً تحتفظ بقيمتها، ومحايدة سياسيًا، ولا تُستخدم كأداة سياسية في الحروب”.
تأييد من الحزبين ومفاجأة في نيوجيرسي
ورغم أن هذه المبادرات يقودها سياسيون محافظون، إلا أن كورتيس شدد على أنها أصبحت محل إجماع حزبي، مشيرًا إلى أن جميع الأمريكيين يعانون من تدهور العملة.
وقال: “في نيوجيرسي، ورغم الأغلبية الديمقراطية فيها وارتفاع ضرائبها، صوّت أكثر من 150 مشرعًا بالإجماع لصالح إنهاء الضريبة على الذهب والفضة دون صوت معارض واحد”.
الهدف القادم: واشنطن
ومع تنامي الدعم الشعبي على مستوى الولايات، يتطلع كورتيس نحو العاصمة واشنطن لتبني سياسات “المال السليم” على المستوى الفيدرالي، لاستعادة ثقة العالم بالدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية.
وأشار إلى أن الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، استسلمت لعصر من الإنفاق بالعجز، بينما واصلت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، وعلى رأسها الصين، شراء الذهب بوتيرة متسارعة تجاوزت 1000 طن سنويًا على مدار السنوات الثلاث الماضية، ومن المتوقع أن تستمر بنفس الوتيرة هذا العام.
وقال كورتيس: “ثقة العالم في الدولار تتآكل، لكن لا يزال بإمكان أمريكا اتخاذ خطوات لاستعادة الثقة في الدولار وطمأنة النظام المالي العالمي”.
مشروع قانون لمراجعة احتياطي الذهب الأمريكي
وأضاف أن أهم خطوة قد تتخذها الحكومة الأمريكية في هذا الاتجاه هي تأكيد امتلاكها لأكبر احتياطي ذهب في العالم.
وفي هذا السياق، قدم أربعة نواب في الكونجرس الأمريكي الشهر الماضي مشروع قانون بعنوان “قانون الشفافية في احتياطي الذهب”، يهدف إلى إجراء أول تدقيق شامل لاحتياطي الذهب الأمريكي منذ عقود.
ويتضمن مشروع القانون – بدعم من رابطة المال السليم – فحصًا وتقييمًا دقيقًا لجميع ممتلكات الذهب الأمريكية، بما في ذلك الكشف الكامل عن كافة المعاملات التي تمت خلال آخر 50 عامًا، مثل البيع، الشراء، الرهن، الإقراض، التأجير، أو غيرها من الالتزامات.
واختتم كورتيس بالقول: “هناك سبب وجيه يجعل دولًا مثل الصين والهند وروسيا تسارع إلى تكديس الذهب، إنه أصل احتياطي حقيقي، والأهم، أن هذا الذهب ملك للأمريكيين ودافعي الضرائب، ويحق لهم معرفة ما تم فعله به”.