في قاعات المتحف الوطني للثقافات العالمية في هولندا، يلفت الأنظار عقد يمني قديم لا يقتصر جماله على صياغته التقليدية، بل تكمن قيمته الحقيقية في كونه شاهدًا على تحولات الحياة اليومية في المجتمع اليمني عبر أجيال متعاقبة، هذه القطعة ليست مجرد حُلية، بل سجلّ بصري حيّ لقصص اقتصادية واجتماعية وعائلية حملتها النساء وورثتها البنات، وأعادت كل مرحلة من مراحل الزمن تشكيل ملامحها.
رحلة عقد تغيّر بمرور الزمن
وفقًا لسجلات المتحف، لم يبقَ العقد على صورته الأصلية منذ لحظة صنعه. فقد انقطع خيطه في مرحلة ما، ربما بسبب احتكاك إحدى الخرزات الفضية أو بفعل سنوات طويلة من الاستخدام، ليُعاد ترميمه لاحقًا، أثناء هذا الإصلاح، قد تكون أُضيفت إليه خرزة فضية جديدة بعد تحسن الظروف المادية للأسرة، أو لحقت به خرزة كهرمان جُلبت من سوق بعيد، لتتشكل بذلك “نسخة ثانية” من العقد نفسه. ومع كل تعديل، كان يتغير شكله وترتيبه، دون أن يفقد هويته الأصلية.
في القرى اليمنية القديمة، كانت العقود متعددة الصفوف والمزدانة بالفضة والأحجبة والخرز الملون تتعرض غالبًا للكسر بسبب ثقلها أو طول استخدامها، لم يكن ذلك نهاية الرحلة، بل بداية جديدة: تُعاد صياغتها، أو تفكك عمدًا ليُعاد توزيع خرزاتها لصناعة عقود أصغر للأطفال، أو لإضافة عناصر جديدة اكتُسبت مع مرور الزمن.
أبعد من الزينة… هوية وحياة
يؤكد هذا المثال أن المجوهرات التقليدية ليست أعمالًا جامدة متحفية، بل قطع حية تنمو وتتبدل شأنها شأن البشر، ما نراه اليوم ليس بالضرورة التصميم الأول الذي خرج من يد الصائغ، بل هو “آخر هوية” لعقد عاش حيوات متعددة قبل أن يستقر في صورته الحالية.
المجوهرات اليمنية التقليدية
تعدّ اليمن واحدة من أبرز البيئات الحاضنة لفنون صياغة الفضة في العالم العربي، وتتميز مجوهراتها باستخدام الفضة المزخرفة، وأحجار الكهرمان، والخرز الملون، وأحيانًا الأحجبة المعدنية التي تحمل طابعًا روحانيًا أو وقائيًا، وغالبًا ما ارتبطت هذه القطع بمناسبات اجتماعية مثل الزواج أو الاحتفالات القبلية، كما عكست الوضع الاقتصادي للأسرة، حيث كانت تُضاف إليها عناصر جديدة مع تحسن الأحوال أو تُفكك عند الحاجة المادية.