تنفرط عقود الكهرمان هذا الحجر الجميل العجيب، صائد نور «رع» كما أسماه الفراعنة وتغنوا برائحته الساحرة، التي تعشقها الألهة، كما اعتقدوا سحرهم، بلونه وأصله النباتي المتحجر، الذى جعله مصيدة لشوائب وحشرات حبست داخله على شكلها دون تحلل، فأمنوا بقدراته السحرية، ولأنه قادم من بلاد وأصقاع بعيدة، البلطيق غالبًا عبر التجار الفينيقيين.
اقتصر وجوده على قطع شديدة الندرة اختص بها الملوك غالبًا في عصر الدولة الحديثة، ونحت على هيئة خواتم سحرية أو وضع فى قلائد طقسية مثل قلادة توت عنخ آمون الكهنوتية.
الكهرمان حجر لين سهل التطويع، ولونه الأصفر الذهبي، محبب لدى المصريين المغرمين بأشعة شمسهم، التي أشرقت حضارة وفنون فوق أرضهم السوداء، ولذلك حتى يومنا هذا، فإن أجمل درجات الأصفر في ذائقة المصريين هي أصفر الكهرمان، ولذلك أيضًا فإنه سرعان ما انتشر الكهرمان في بر مصر، في العقدين الأوليين من القرن العشرين، عندما أتى به الأوكرانييون وباقى الجاليات الروسية الهاربة من الثورة البلشفية، وكما هى عادته فتن الحجر العجيب قلوب الصناع لسهولة صياغته، وقلوب الفلاحين، حتى أصبحت موضة العصر شبكة عقد الكهرمان الذى أحيانًا ما يعلق فيه خرطوشة فضية بها تميمة حفظ أو نسخة من عقد زواج العروس وخلخالى الفضة.
تذكر فنانة الحلى الشهيرة عزة فهمى، أنه حتى سنتينات القرن العشرين، كانت النسوة الأقل ثراء يشترين خرز الباكلايت البلاستيكي، ويلضمنه فى خيوط ليصنعن عقودًا تشبه الكهرمان.
وقد حكت لي والدتي، أن جدتها لأمها كانت تمتلك عقدًا كهرمانيًا كبيرًا، ولأن الناس في أرياف مصر كانوا يؤمنون بأن لـ «الكارم» هكذا كان اسم عقد الكهرمان قدرات سحرية لشفاء الأطفال، فإن أمها جدتي ألبستها العقد الذي ضاع منها، ولكنها ما تزال تذكر لونه الأصفر الداكن وحجارته الضخمة.
الحقيقة أن هذا المعتقد دفع الكثيرين لاقتناء مجوهرات خاصة بالأطفال من الكهرمان، لحمايتهم من المرض والحسد، وكذلك فإن الكهرمان استخدم مع حجارة أخرى في مجوهرات الزار المصري والسوداني، كما علقت البدويات الكهرمان في عرائس وشرابات البراقع للوقاية من المرض والصداع والفأل السيئ والعكوسات وامتصاص الأمراض والطاقة السلبية، والوهن من الجسم ولم يقتصر الإيمان بقدرات الكهرمان السحرية على المصريين، وفي الخليج يمنع الكهرب كما يسمونه الحسد والشر والمرض وموت الأطفال الصغار، وهو في المغرب العربي والصومال، يستخدم كتميمة للوقاية من السحر ولبس الجن والعكوسات، وهو فى اليمن من أكثر الخرز استعمالًا مع العقيق اليمنى.
اليوم انقرض «الكارم»، بعد أن حلت الشبكة الذهبية العصرية في الأرياف وباعه أغلب من يقتنونه ليعاد تشكيله وصياغته سبح تلاقى رواجًا في كافة أنحاء العالم العربي، رغم سعر الحجر الباهظ جدًا، وتأتي الفصوص والأحجار من روسيا وألمانيا والبلطيق بكل الأشكال الشفاف والأصفر الفاتح والأصفر القاتم والاشهب، لهذه المسابح ولصياغة مجوهرات عصرية تتماشى مع الذوق العولمي الجديد، ولكن يبقى ذلك الحجر الخام الملضوم في خيط القطن السميك لخواصه الكهربية برائحته المميزة سحره.
وينفلت من بين إيدينا الزمان، كما قال سيد حجاب، ويبقى لصائد الشمس خلوده.