مع ظهور العديد من المخاطر على مستقبل الدولار كعملة احتياط دولية، في ظل ارتفاع نبرة “التخلي عن الدولار”، وذلك عقب اشتعال الحرب التجارية المفتوحة بين أكبر اقتصادين في العالم، ومع توسع دائرة التحالفات والتجاذبات، وتوقعات باستمرارها لفترة أطول، وربما توسع رقعتها الجغرافية لتشمل مناطق ودولا أخرى تتعرض قواعد التجارة العالمية لضربات متتالية، نتيجة تصاعد الإجراءات الحمائية المتبادلة بين الطرفين شرقًا وغربًا، مما أصاب آليات التسعير المتعارف عليها بصدمات متتالية، وفقدان الثقة في نزاهة قاعدة العرض والطلب، وهو ما وصل ذروته مع قرار الغرب بوضع سقف سعري للنفط والغاز الروسي.
وهو ما ينسحب بكل تأكيد على كافة السلع، وعلى رأسها المعدن الأصفر “الذهب”، والذي يتعرض في الحقيقة لموجات متتالية من كبح الأسعار، من قبل بنوك الاستثمار الأمريكية، التي توجه الأسعار بأسواق المال، بما تملكه من قدرات فائقة، سواء على مستوى السيولة التي يمكنها توفيرها، أو الآليات التي تملكها، أو الأسواق التي تنتشر فيها على مستوى العالم، وهو الأمر الثابت بأحكام قضائية متتالية ضدها على مدار عقود، مما أضر بمصالح المضاربين، وبشفافية ونزاهة الأسواق، وقاعدة العرض والطلب التي تم خرقها بشكل فاضح من أجل احتواء أسعار الذهب ضمن نطاقات غير ضارة بسمعة الدولار.
وليس أدل على ذلك مما حدث عقب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، حيث انخفضت أسعار الذهب بشكل دراماتيكي لا يعكس أيا من أدبيات، ولا قواعد التسعير، وبدون أي مبررات، سوى رغبة أمريكية جامحة في إبقاء الأسعار في مستويات لا تعكس ضعف الدولار، الذي فقد أكثر من 90% من قدرته الشرائية بالفعل، ومع ذلك مازال متماسكا أمام الذهب فقط!
هذه الأسباب مجتمعة، والتي تعكس صراعًا قويًا على شكل النظام المالي والنقدي الدولي، والتي يشكل الذهب فيها أحد أهم الحلول لإنهاء هيمنة الدولار الورقي المتضخم بشكل لم يعد في الإمكان تقبله أو تحمله، وهو ما أشارت إليه الأطراف المتصارعة بشكل واضح في الكثير من اللقاءات والأحاديث، توضح أن أسعار الذهب أصبحت رهينة صراع سياسي عالمي، وتتحرك وفق موازين القوى، ولم تعد القواعد التقليدية المتعارف عليها هي ما تتحكم بالأسواق والأسعار.
وهو ذات الأمر الذي حدث بسوق النفط، كما أوضحت.
وبالتالي فإن توقعات الأسعار أصبحت ضربًا من الخيال، أو مقامرات تفتقد لمعطيات واضحة، إن لم تكن تستند إلى قراءة الواقع السياسي الدولي، ومجريات الصراع الحالي.
لكن في كل الأحوال، وفي ظل البيئة المحمومة بالتضخم ينجح الذهب دومًا في تحقيق المزيد من ارتفاع الأسعار، مقابل العملات الوطنية، مع تراجع قيمتها أمام الدولار، وهو ما حدث أمام جميع العملات الرئيسية العالمية عدا الدولار.
وهو ما يفسر تحقيق الذهب ارتفاعًا بأكثر من 100% خلال عام 2022 في مصر مثلا، وكان السبب الحقيقي ليس ارتفاعه عالميًا، بل انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، والمدفوع بالارتفاع المستمر في التضخم.
وهو الأمر الذي يدفع لتوقع توجه الذهب نحو تحقيق المزيد من الارتفاعات أمام الجنيه المصري خلال الفترة المقبلة، مع تجاوز التضخم لمستوى 25%، وفقًا للبيانات الرسمية، مع ارتفاع التوقعات بتخفيض جديد للجنيه، الأمر الذي يتم تداوله حاليًا من قبل مؤسسات دولية، وبنوك عالمية مرموقة.
فإذا استجاب المركزي لتلك الرؤى والاتجاه لخفض جديد للجنيه فمن المؤكد أن تقفز أسعار الذهب من جديد، بغض النظر عن استمرار ارتفاع الأسعار نظرا لارتفاع التضخم.