لم تكن سرقة مجوهرات التاج الفرنسي من متحف اللوفر في 19 أكتوبر مجرد حادث أمني عابر، بل صدمة ثقافية عميقة أعادت طرح أسئلة مؤلمة حول حماية التراث الإنساني، ففي ساعات قليلة، تحولت واحدة من أثمن مجموعات المجوهرات التاريخية في العالم إلى غنيمة لعصابة منظمة، وسط ذهول الرأي العام وسخط خبراء الفن والمجوهرات.
كيف نُفذت العملية؟
في وضح النهار، وتحديدًا عند التاسعة والنصف صباحًا، وصلت مجموعة مكوّنة من أربعة أشخاص مستخدمين رافعة ميكانيكية مثبتة على مركبة، وتوقفوا قرب صالة أبولو المطلة على نهر السين، وبأدوات كهربائية، تمكنوا من فتح نافذة مرتفعة، وتحطيم خزائن العرض، ثم فرّوا سريعًا على دراجتين ناريتين حاملين ثماني قطع من مجوهرات التاج.
التحقيقات الأولية كشفت خللًا أمنيًا لافتًا، إذ تبيّن أن ثلث القاعات في المنطقة المستهدفة لا تخضع للمراقبة بالكاميرات، إضافة إلى سوء توجيه إحدى الكاميرات الرئيسية في الشرفة.
هذا السيناريو أعاد إلى الأذهان حوادث تاريخية مشابهة، أبرزها سرقة مجوهرات التاج أثناء الثورة الفرنسية عام 1792، وسرقة سيف الملك شارل العاشر المرصع بالألماس من الصالة نفسها عام 1976.
كنوز لا تُقدّر بثمن
تُقدَّر قيمة القطع المسروقة بنحو 88 مليون يورو، وفقًا للنيابة العامة في باريس. ومن بين أبرزها بروش ألماسي نادر صُمم خصيصًا للإمبراطورة أوجيني عام 1855، ويضم ماسي جولكوندا شهيرين يعود تاريخهما إلى القرن السابع عشر.
كما شملت المسروقات تاجًا وعقدًا من الياقوت للملكة ماري-أميلي، ومجموعة زمرد وأقراطًا كانت ملكًا للإمبراطورة ماري-لويز، إلى جانب قطعة من أطقم أوجيني الرسمية.
وخلال الهروب، اضطر اللصوص إلى التخلي عن تاج استثنائي مرصع بالألماس والزمرد، عُثر عليه لاحقًا محطمًا بالقرب من المتحف، في مشهد يعكس حجم الخسارة الثقافية التي لحقت بالمجموعة.
صدمة تتجاوز المال
لا ينظر المتخصصون إلى هذه المجوهرات بوصفها أصولًا مالية فحسب، بل باعتبارها شواهد حية على التاريخ الأوروبي، فالمجوهرات، بحسب خبراء الأحجار الكريمة والمؤرخين، تحمل قصص السلطة والهوية والمهارة الفنية، وهو ما يجعل فقدانها مسألة تمس الوجدان العام.
وترى أصوات بارزة في عالم المجوهرات أن الحادث زعزع الثقة في قدرة المتاحف الكبرى على حماية مقتنياتها، وأثار مخاوف لدى الجامعين والبيوت العالمية من إعارة قطع تاريخية للعرض العام.
إخفاق مؤسسي ونمط متكرر
اللافت أن السرقة جاءت بعد سنوات من التحذيرات، فبرغم تحديث خزائن العرض عام 2019 بخزائن أخف وزنًا وأكثر شفافية، أظهر تقرير صادر عن أعلى هيئة رقابية مالية في فرنسا أن اللوفر لم يواكب متطلبات الأمن الحديثة بين عامي 2019 و2024، رغم الارتفاع القياسي في أعداد الزوار.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن إدارة المتحف ركزت على مشاريع ذات طابع استعراضي وسياحي، على حساب الاستثمار في البنية الأمنية، في وقت شهدت فيه متاحف فرنسية أخرى حوادث سرقة مشابهة خلال العامين الماضيين.
هل مكان المجوهرات المتاحف؟
أعاد الحادث الجدل حول جدوى عرض مجوهرات بهذه الحساسية للجمهور. وبينما اقترح البعض الاكتفاء بنسخ مقلدة، يرفض كثير من الخبراء هذا التوجه، مؤكدين أن قيمة المتاحف تكمن في عرض الأصل، لا النسخة، شريطة توفير أقصى درجات الحماية.
بين الإهمال والأمل
المفارقة أن فرنسا باعت مجوهرات تاجها في نهاية القرن التاسع عشر لأسباب سياسية، ثم أعادت جمعها تدريجيًا بفضل تبرعات عامة ومبادرات ثقافية، قبل أن تضيع مجددًا نتيجة ثغرات أمنية.
ورغم قتامة المشهد، يبقى الأمل قائمًا، إذ أظهرت تجارب سابقة — مثل استعادة جزء كبير من مجوهرات دريسدن المسروقة — أن هذه الكنوز قد تعود يومًا ما. وحتى ذلك الحين، تظل سرقة مجوهرات التاج الفرنسي جرس إنذار صارخًا حول هشاشة حماية التراث، مهما بلغت شهرة المكان أو عراقة المؤسسة.

















































































