في عالم تتقلب فيه الأسواق وتتآكل فيه قيمة العملات الورقية بسبب التضخم المتصاعد، يتجه المستثمرون والأفراد على حد سواء للبحث عن ملاذات آمنة تحمي مدخراتهم، ودائمًا كان الذهب هو الخيار الأول والمفضل، لكن الفضة التي غالبًا ما توصف بأنها (ذهب الفقراء) أو (الذهب الصناعي)، بدأت تفرض نفسها بقوة كبديل يستحق النظر. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: في فترات التضخم المرتفع، أيهما يوفر حماية أفضل للقوة الشرائية على المدى الطويل؟
التضخم وتأثيره على الأصول:
التضخم هو الارتفاع المستمر في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، ما يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للعملة، في مصر على سبيل المثال ارتفعت معدلات التضخم في السنوات الأخيرة، حيث وصل التضخم السنوي وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى مستويات غير مسبوقة وتجاوز نسبة 35% في بعض الفترات عام 2023،[1] هذه المعدلات تجعل الحفاظ على قيمة المدخرات تحديًا كبيرًا.
وتتميز المعادن الثمينة وفي مقدمتها الذهب والفضة بكونها أصولاً مادية لا تتأثر بشكل مباشر بقرارات البنوك المركزية المتعلقة بزيادة المعروض النقدي، وهذا ما يجعلها درعًا واقيًا ضد التضخم. ولكن هل يتصرف الذهب والفضة بنفس الطريقة خلال هذه الفترات؟
الذهب كملاذ آمن تقليدي ضد التضخم:
يُعرف الذهب بأنه الملاذ الآمن التقليدي، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والتضخم، يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:
- قيمة متأصلة تاريخية: احتفظ الذهب بقيمته عبر آلاف السنين، وكان يستخدم كوسيلة للتبادل ومخزن للقيمة.
- ندرة العرض: الذهب معدن نادر وعمليات التعدين تتسم بالصعوبة والبطء، ما يحد من زيادة عرضه في الأسواق.
- ضعف الارتباط بالأسواق المالية: غالبًا ما يتحرك الذهب عكس اتجاه أسواق الأسهم والسندات، ما يجعله أداة لتنويع المحافظ الاستثمارية.
- الطلب من البنوك المركزية: تحتفظ العديد من البنوك المركزية حول العالم بكميات كبيرة من الذهب كجزء من احتياطاتها الأجنبية، ما يدعم الطلب عليه، على سبيل المثال زادت البنوك المركزية حيازاتها من الذهب متجاوزة 1000 طن في كل عام من الأعوام الثلاثة الأخيرة بداية من عام 2022.[2]
في فترات التضخم المرتفع يميل المستثمرون إلى شراء الذهب لأنه لا يتأثر بشكل مباشر بارتفاع أسعار الفائدة التي تهدف البنوك المركزية من خلالها إلى مكافحة التضخم، فعندما ترتفع أسعار الفائدة قد تصبح الأصول المدرة للدخل أكثر جاذبية، ولكن يظل الذهب خيارًا مفضلاً للحفاظ على القوة الشرائية في بيئة تضخمية، وقد شهدت فترة السبعينيات ارتفاعًا في أسعار الذهب تجاوزت 2300% ليبلغ حوالي 850 دولار للأوقية في الفترة من 1971 إلى 1980، بعد أن كان 35 دولار، لمواجهة التضخم المدفوع بانتهاء نظام بريتون وودز وأزمات النفط والتوترات الجيوسياسية.[3]
الفضة: المعدن المزدوج (صناعي واستثماري):
على النقيض من الذهب، تمتلك الفضة طبيعة مزدوجة، فهي معدن ثمين وملاذ آمن، وفي نفس الوقت معدن صناعي حيوي، ومن ثم تظهر خصائص الفضة في التالي:
- الطلب الصناعي: حوالي 50% من الطلب على الفضة يأتي من الاستخدامات الصناعية، مثل الإلكترونيات، الألواح الشمسية، السيارات الكهربائية، والأجهزة الطبية،[4] فالفضة من المعادن الرئيسية في عالم الصناعة، ويقدر سوقها بحوالي 1,8 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يعني أن سعر الفضة يتأثر بصورة كبيرة بحالة الاقتصاد العالمي والطلب على هذه الصناعات.
- الندرة والتداول: الفضة أقل ندرة من الذهب، وأسعارها أكثر تقلبًا، كما أنها أقل تكلفة لكل أونصة، ما يجعلها أكثر سهولة في التداول للمستثمرين الصغار.
- الارتباط بالذهب: غالبًا ما تتحرك الفضة في نفس اتجاه الذهب، ولكن بتقلبات أكبر، عندما يرتفع الذهب، تميل الفضة إلى الارتفاع بوتيرة أسرع، والعكس صحيح عند الانخفاض.
- في أوقات التضخم، يمكن أن تستفيد الفضة من عاملين: ارتفاع الطلب على المعادن الثمينة للتحوط، وارتفاع الطلب الصناعي نتيجة لارتفاع أسعار السلع بشكل عام (حتى لو كان التضخم يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي)، على سبيل المثال بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، شهدت الفضة ارتفاعات حادة نظرًا لتعافي الاقتصاد والطلب الصناعي المتزايد، بل إن الفضة تفوقت بشكل ملحوظ على الذهب، حيث ارتفع سعر الذهب على أساس شهري بنسبة 167% من أغسطس 2008، بينما ارتفعت الفضة بأكثر من 200%، بل إن الفضة واصلت الارتفاع بنسبة 400% للفترة من 2008 إلى2011.[5]
مقارنة العائد وحماية القوة الشرائية في فترات التضخم:
عند تقييم حالة سوق الفضة، يركز المحللون على عدد من المجالات الرئيسية كحجم العرض من المناجم، والطلب الصناعي التقليدي، والطلب على الاستثمار، والطلب الأخضر، وعند مقارنة الذهب والفضة كحماية ضد التضخم، يجب مراعاة النقاط التالية:
- التقلبات السعرية: الفضة أكثر تقلبًا من الذهب في فترات التضخم المرتفع، قد تظهر الفضة مكاسب أسرع وأكبر بسبب طبيعتها (المضاربة) وارتباطها بالطلب الصناعي، وبالفعل تمكنت ارتفاعات الفضة من تجاوز ارتفاعات الذهب بداية عام 2024؛ حيث ارتفعت الفضة بنحو 40% بينما ارتفع الذهب بنحو 20%، ومن المتوقع أن تتفوق أسعار الفضة على أسعار الذهب،[6] ومع ذلك فإن هذا يعني أيضًا أنها قد تشهد انخفاضات حادة بنفس السرعة.
- السيولة: الذهب يتمتع بسيولة أعلى في الأسواق العالمية والمحلية مقارنة بالفضة، ما يسهل بيعه وتحويله إلى نقد عند الحاجة.
- تأثير الطلب: بينما يتأثر الذهب بشكل رئيسي بالطلب الاستثماري وطلب البنوك المركزية، تتأثر الفضة بشكل كبير بالطلب الصناعي، وهو ما قد يحد من مكاسب الفضة إذا أدى التضخم إلى تباطؤ النشاط الصناعي.
- عامل “المصنعية” في السوق المحلي: عند شراء الذهب المشغول تضاف “مصنعية” عالية قد تصل إلى نسبة 10-15% أو أكثر من سعر الجرام، ما يقلل من جاذبية الذهب كاستثمار قصير الأجل، بينما في الفضة (على الرغم من وجود مصنعية عليها) غالبًا ما تكون المصنعية أقل بكثير كنسبة مئوية، ما يجعلها خيارًا أسهل للادخار بكميات صغيرة، السبائك والجنيهات الذهبية والفضيَّة هي الخيار الأفضل للادخار الخالي من المصنعية تقريبًا.
خلاصة ذلك، في فترات التضخم المرتفع، يظل كل من الذهب والفضة من الأصول الجذابة للحفاظ على القوة الشرائية، فالذهب يُعد الخيار الأنسب للمستثمر المتحفظ الباحث عن استقرار طويل الأمد؛ حيث يوفر حماية موثوقة ضد التضخم وتقلبات السوق، ويتمتع بسيولة عالية وثقة عالمية.
أما الفضة فهي إضافة ممتازة لمحفظة المستثمر الذي يتحمل مخاطر أعلى ويبحث عن عوائد محتملة أكبر، بفضل طبيعتها المزدوجة كملاذ آمن ومعدن صناعي، ما يجعلها قادرة على تحقيق مكاسب كبيرة، خاصة إذا تزامن التضخم مع نمو صناعي، ومع ذلك يجب أن يكون المستثمر على دراية بالتقلبات السعرية العالية.
ولتحقيق حماية شاملة ضد التضخم وتعزيز القوة الشرائية على المدى الطويل، يوصي الخبراء بـتنويع المحفظة لتشمل كلاً من الذهب والفضة، فالذهب يشكل الأساس الثابت للمحفظة، بينما تضيف الفضة فرصة للنمو المحتمل والمضاربة، مع مراعاة الظروف الاقتصادية العامة والطلب الصناعي عند اتخاذ قرارات الاستثمار.
[1] البنك المركزي المصري. (2023). بيان عن التضخم لشهر نوفمبر 2023، متاح على:
https://www.cbe.org.eg/ar/news-publications/news/2023/12/10/13/42/cpi-press-release-november-2023
[2] World Gold Council. (2024) Gold Demand Trends Full Year 2023. Available at: https://www.gold.org/goldhub/research/gold-demand-trends/gold-demand-trends-full-year-2023/central-banks
[3] GOLDMARKET. (2024). Cours de l’or sur 10 ans: historique et analyse. Available at: https://www.goldmarket.fr/cours-de-lor-sur-10-ans-historique-et-analyse/
[4] Philip Newman. (2023). World Silver Survey 2023, The Silver Institute. Available at: https://www.silverinstitute.org/wp-content/uploads/2023/04/World-Silver-Survey-2023.pdf
[5] Majde Nouri. (2025). Silver Thursday: A Defining Moment in Silver Market History. Available at: https://cfi.trade/en/blog/commodities/silver-thursday-a-defining-moment-in-silver-market-history
[6] Cristian Cochintu. (2024). Silver Forecast & Price Predictions Q2 2024: Breakout from a three-and-a-half-year range. Available at: https://capex.com/en/overview/silver-forecast-price-prediction