في عالم اقتصادي يعمل بافتراضية أن “الأخبار تحرك الأسعار”، غالبًا ما يُفترض أن التصعيد الجيوسياسي أو اندلاع حرب بين دولتين كبيرتين كإسرائيل وإيران سيشعل أسعار الذهب، لكن الأسبوع الماضي كان استثناءً صارخًا لهذه القاعدة؛ فقد أنهى الذهب أسبوعه منخفضًا، بنحو 2 % تقريبًا، في تجاهل شبه تام لما وصفه البعض بـ”أكبر حرب في الشرق الأوسط منذ عقود”.
قال آفي جيلبرت، المحلل الاقتصادي في تصريحات صحفية، بأن هذا التباين بين ما هو متوقع وما حدث فعليًا يدفعنا لإعادة النظر في واحدة من أكثر الفرضيات رسوخًا في عالم الأسواق المالية، فرضية العلاقة الميكانيكية بين الأخبار والتحركات السوقية، والذي يفترض أن الأخبار هي المحرك الرئيسي للأسعار، إذ تشير الأدلة إلى أن هذه العلاقة ليست بالبساطة التي يُروّج لها، بل قد تكون في حالات كثيرة مضللة تمامًا.
الأسواق لا تتحرك بالأخبار.. بل بعوامل أعمق
في دراسة أجراها كل من كاتلر وبورتربا وسمرز عام 1988 تحت عنوان “ما الذي يحرك أسعار الأسهم؟”، تبيّن أن الأخبار الاقتصادية الكبرى تفسر فقط نحو 20% من تحركات السوق، بل إن بعض أكبر التحركات السوقية حدثت دون أي أخبار تُذكر، وهو ما يشكك بعمق في فرضية الترابط بين الأخبار وتحركات السوق.
وفي عام 1998، أجرى الصحفي توم ووكر تحليلًا لتأثير 42 عامًا من الأخبار “المفاجئة” على الأسواق، وتوصّل إلى استنتاج مفاجئ: حتى مع العلم المسبق بالأخبار، لا يمكن التنبؤ باتجاه السوق.
أما في عام 2008، فتمت مراجعة أكثر من 90,000 خبر مرتبط بمئات الأسهم، وتبيّن أن معظم تحركات الأسعار لم ترتبط بأي أخبار من الأساس، والعكس صحيح أيضًا.
ومن المفارقات أيضًا أن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في عام 2007 لم يستطع تفسير انخفاض داو جونز بنسبة 3.3% في يوم واحد، ولم يكن هناك أي حدث اقتصادي كبير يمكن نسب الهبوط إليه، وحتى اليوم، لا يوجد إجماع على أسباب أزمات مثل الكساد العظيم، أو أزمة 1987، أو فلاش كراش 2010، أو الأزمة المالية الآسيوية.
الحقيقة المزعجة: نحن نبحث دومًا عمّا يؤكد قناعاتنا
في كتابه الشهير “التفكير السريع والبطيء”، يشير دانيال كانيمان إلى أن عقولنا مبرمجة على ربط الأشياء ببعضها تلقائيًا، والبحث عن “سبب” لكل نتيجة، وهذا ما يجعلنا نقع في فخ التفكير التوكيدي؛ نبحث عمّا يؤكد توقعاتنا، ونتجاهل ما يخالفها. لذلك، حين لا يصعد الذهب رغم اندلاع حرب، نبدأ باختلاق أعذار لتبرير هذا الانفصال، بدلًا من مراجعة فرضياتنا من الأساس.
تحليل موجي.. لا خبر ولا تحليل أساسي
خلال الأسبوع الماضي، استخدم بعض المحللين أدوات التحليل الفني الموجي بدلًا من متابعة الأخبار، ونجحوا في تحديد منطقة مقاومة عند 3474 دولار للأوقية، وهي المنطقة التي فشل الذهب في اختراقها رغم تصاعد التوترات العسكرية. في الواقع، تراجع الذهب من هذه النقطة تمامًا كما توقّع التحليل الرياضي البحت، لا السياسي ولا الاقتصادي.
وهذا يقودنا إلى قناعة جوهرية يعبّر عنها باحثون مثل أفى غيلبورت ومندلبروت: الأسواق لا تتحرك بعوامل “خارجية” كالأخبار، بل ضمن نمط داخلي يتبع قواعد سلوكية ورياضيات معقدة لا تُرى بالعين المجردة. الذهب، كغيره من الأصول، يملك “دورة حياة”، تتأرجح بين القمم والقيعان وفق نمط متكرر بصرف النظر عن الأحداث.
كما قال بنجامين فرانكلين: “من السهل دائمًا أن نختلق سببًا لأي شيء نرغب فيه”، والذهب في هذا السياق ضحية لخيالنا الجمعي؛ نريد منه أن يكون الملاذ الآمن دائمًا، ونتجاهل أنه أصل مالي مضاربي يتقلب بحسب المزاج العام، لا بحسب العناوين الإخبارية.
أما الاقتصادي الكبير فرانسيس بيكون فقال منذ قرون: “العقل البشري، إذا تبنّى فكرة، يبدأ في ليّ كل شيء آخر كي يتماشى معها.” وهو ما يحدث الآن تمامًا حين نحاول تفسير انخفاض الذهب في وقت الحرب.
الأسواق لا تكافئ من يلاحق الأخبار، بل من يلاحق الأنماط، والتحرر من “خرافة السببية” بين الخبر والتحرك السعري هو الخطوة الأولى نحو فهم أعمق لحقيقة الأسواق.
وعلى هذا الأساس، يرى المحللون أن الذهب قد يتراجع نحو مستويات 275 دولار في صندوق GLD قبل أن يشهد موجته الصاعدة الأخيرة ضمن الدورة التي بدأت منذ قاع 2015.
وخلاصة القولق، فإن الحرب لم تحرك الذهب كما ظن البعض، فالأخبار لا تُفسر معظم تحركات السوق، حيث أنها تتبع أنماطًا نفسية وسلوكية أكثر تعقيدًا من مجرد “رد فعل” على الأحداث.