في ظل تصاعد الضبابية بشأن السياسات الاقتصادية والتجارية حول العالم، يشهد سوق الذهب موجة صعود جديدة، مدفوعة بإعادة توزيع رؤوس الأموال العالمية، وتراجع الدولار الأمريكي، واتساع الفجوة بين عوائد السندات الأمريكية ونظيراتها من الدول ذات التصنيف الائتماني المرتفع مثل ألمانيا، وفقًا لما قاله جيريمي دي بيسمير، من مجلس الذهب العالمي.
الفائدة الحقيقية لم تعد وحدها اللاعب الرئيسي
لسنوات، كانت أسعار الفائدة الحقيقية هي المحرك الأبرز للذهب؛ إذ كان هناك ارتباط عكسي واضح بين الطرفين، فكلما ارتفعت الفائدة الحقيقية، قلّت جاذبية الذهب كأصل لا يدر عائدًا، غير أن هذا النمط بدأ يتلاشى منذ عام 2022، إذ شهدنا ارتفاعًا متزامنًا في كليهما، ما يعكس دخول عوامل جديدة إلى المعادلة، أبرزها تزايد رغبة المستثمرين في التحوط ضد المخاطر المتعددة، إلى جانب موجة شراء غير مسبوقة من البنوك المركزية، خصوصًا في الأسواق الناشئة.
البنوك المركزية في خط المواجهة
منذ عام 2022، كثفت البنوك المركزية، لا سيما في الاقتصادات النامية، مشترياتها من الذهب بوتيرة لم يسبق لها مثيل، هذا التوجه يعكس رغبتها في تنويع الاحتياطيات بعيدًا عن الدولار، وتحصين موازناتها أمام الاضطرابات الجيوسياسية، وكذلك الثقة التاريخية بأداء الذهب خلال فترات الأزمات.
رأس المال يغادر أمريكا
المخاوف المتزايدة بشأن السياسات الاقتصادية والتجارية أدت إلى تآكل ثقة المستثمرين العالميين، مما حفزهم على البحث عن بدائل لأذون الخزانة الأمريكيةK النتيجة كانت واضحة: انخفاض في قيمة الدولار، وارتفاع في أسعار الذهب، وتوسّع في الفجوة بين العائد على السندات الأمريكية والسندات الألمانية ذات العشر سنوات.
أزمة الديون الأمريكية تدق ناقوس الخطر
من الأسباب الرئيسية التي تدعم ارتفاع أسعار الذهب اليوم هو تزايد القلق بشأن الاستدامة المالية للولايات المتحدة، فالفارق بين عائد سندات الخزانة الأمريكية ومعدل المبادلة (Swap Spread) ارتفع بشكل ملحوظ، ما يشير إلى تراجع شهية المستثمرين لشراء الديون الأمريكية بالأسعار الحالية، وبالتالي ارتفاع العوائد.
وبحسب تحليل إحصائي مبسط، فإن هذا الفارق – والذي يمثل مؤشرًا على الضغوط المالية – يُظهر دلالة إحصائية قوية في تفسير تحركات الذهب، ما يؤكد العلاقة المتنامية بين المخاطر المالية والطلب على الذهب كملاذ آمن.
الولايات المتحدة على مفترق طرق مالي
الإنفاق التوسعي الذي بدأ مطلع الألفية، مقرونًا بتغيرات في هيكل الطلب على السندات، وضع الولايات المتحدة في وضع مالي هش. في الوقت ذاته، فإن الجهات الرسمية، كالبنك الفيدرالي وحكومات أجنبية، باتت تقلص من حيازتها للسندات الأمريكية، فيما أصبح المستثمرون الأجانب من القطاع الخاص هم الحامل الأكبر، وهؤلاء أكثر حساسية للأسعار، ويقارنون بشكل دائم بين العوائد الأمريكية وتلك المتاحة في أسواق أخرى.
هل نحن على أعتاب أزمة كبرى؟
رغم الصورة القاتمة، فإن سيناريو حدوث أزمة مالية شاملة في الولايات المتحدة لا يبدو وشيكًا، إلا أن تكرار أزمات صغيرة – أشبه بالهزات الارتدادية – يبقى الاحتمال الأكثر ترجيحًا، كما حدث في أزمة المملكة المتحدة عام 2022 عندما اضطرت الحكومة للتراجع عن سياستها المالية تحت ضغط السوق. وفي مثل هذه الظروف، يُرجّح أن يتجه المستثمرون نحو الذهب، الذي يحتفظ بجاذبيته كملاذ آمن بديل.
في ظل البيئة المعقدة التي تهيمن عليها التوترات الجيوسياسية وأسعار الفائدة المرتفعة، برزت المخاوف المالية كعامل ثالث لا يقل تأثيرًا في تسعير الذهب، ورغم أن السندات الأمريكية لا تزال تُعد مرجعية للملاذ الآمن، فإن تغير المزاج العام للمستثمرين وارتفاع وتيرة القلق من العجز الأمريكي قد يعيد رسم خارطة الأصول الآمنة. وفي هذا السياق، يواصل الذهب تأكيد مكانته كأصل مفضل في أوقات القلق والتقلب.