ضبط أسعار الذهب في جميع أنحاء البلاد، يمثل خطوة مهمة نحو سوق أكثر شفافية وعدالة، من حق المواطنين في هذا البلد، الحصول على منتجاتهم بأسعار عادلة تتسق مع الأسعار العالمية، كما من حق المصنعين وتجار التجزئة العمل في بيئة أكثر استقرارًا، تخضع للإشراف التنظيمي من الدولة لمواجهة أي ارتفاعات غير مبررة ولا منطقية تستهدف الاستغلال والاحتكار.
شهدت أسعار الذهب بالأسواق المحلية موجة ارتفاعات كبيرة منذ مارس 2022، بلغت نحو 338 % وبزيادة سجلت تقريبًا 2700 جنيه في سعر الجرام، في ظل تراجع قيمة العملة، ما دفع المواطنين إلى الذهب كملاذ آمن، للحفاظ على قيمة أمولهم ومداخراتهم.
اتسم المشهد الاقتصادي في مصر بالتضخم المستمر، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للعملة، ودفع المواطنين نحو الذهب كمخزن موثوق للقيمة، وكما لعب الذهب دورًا في الحفاظ على قيمة الأموال، لعب دورًا آخر في دفع الدولار بالسوق السوداء لمستويات مرتفعة.
اتخذت الدولة قرارت للحد من خروج العملة الصعبة، ومن بينها وقف استيراد الذهب الخام للشركات، ما أدى نقص المعروض، لاسيما مع زيادة الطلب، وتحول السوق المحلي إلى سوق مغلق، من يمتلك فيه السلعة أصبح يتحكم في التسعير، وتحول البيع داخل السوق إلى مزاد يومي، ومضاربات في عملية التسعير.
ومع التطورات التي حدثت داخل سوق الذهب خلال العاميين الماضيين، طالب الكثير من المتابعين الأجهزة الرقابية بالتدخل لضبط حركة أسعار الذهب، من خلال تدخل سريع ومدروس، ووضع تشريعات لهذا السوق تمنع احتكار السلعة.
الحكومة قد لا تريد التدخل في آلية العرض والطلب، والتي يقوم عليها مفهوم الاقتصاد الحر، لكن أيضًا قضية الاقتصاد الحر قضية إشكالية، فلا ينبغي أن تترك الدولة سوقًا كبيرًا لمجموعة من التجار، تتلاعب بمدخرات المواطنين، وباقتصاد البلد.
في الحقيقة، لا يمكن للدولة أن تفرض تسعيرًا لجرام الذهب، أو تحديد قيمة سلعة، هي لا تمتلكها بالأساس، فعملية التسعير فعليًا في الأسواق الحرة في يد من يمتلك السلعة.
يعد تجار الذهب الخام أو ما يطلق عليهم المسوقجية، هم المتحكمون فعليًا في عملية التسعير، بحكم أنهم يمتلكون السلعة، ومن ثم يحددون الأسعار يوميًا، وتتركز طبيعة عملهم داخل السوق المحلي حول” التجميع والتغذية، أي تجميع الذهب المستعمل أو الكسر من الأسواق، وصهره وتحويله لسبائك عيار 24، ثم بيعه للمصنعين وتجار الجملة والتجزئة، وفي الأسواق الخارجية، يتولون عمليات الاستيراد والتصدير، فالتصدير في حالة نقص الطلب وارتفاع المعروض، وبغرض توفير السيولة للأسواق، كما أنهم أيضًا يستوردون الذهب من الأسواق الخارجية في حالة نقص المعروض.
تصدير الذهب للأسواق الخارجية هو أحد روافد توفير العملة الصعبة للدولة، ومن ثم تسمح الدولة بتصديره دون رسوم تثمين، وهو ما دفع البنك المركزي للتدخل، وإلغاء قرار وزرة المالية بفرض رسوم تثمين بنسبة 1 % على تصدير الذهب الخام خلال السنوات الماضية.
وعلى الرغم من تصدير الذهب الخام بدون رسوم، إلا أن السوق يشهد عمليات تهريب أيضًا بطرق غير مشروعة، إذ تفرض الدولة تحصيل عائدات الذهب بالدولار، مقابل الجنيه للمصدرين، ومن ثم يسعى البعض لتصدير للذهب من أجل توفير الدولار وتخزينه في حسابات بالبنوك الخارجية.
الذريعة التي يستخدمها تجار الذهب الخام في تمرير الارتفاعات والانخفاضات غير المبررة، هي العرض والطلب، ولا توجد بيانات حقيقة توضح حجم الطلب وحجم المعروض، وما يؤكد على وجود التلاعب في الأسعار، هو ارتفاعها ونزولها بنحو 200 جنيه في اليوم الواحد، في بعض الأوقات، وهي أمور غير منطقية، ومن ثم قد يكون رفع أو خفض الأسعار وهميًا، أو مقصودًا لتحقيق أرباح لصالح بعض التجار، أو تصفية حسابات مع البعض بغرض الخسارة، وهي تأويلات داخل السوق.
ترك منظومة الذهب الخام في أيدي بعض التجار، أمر بالغ الخطورة، ومنح البعض فرصة للتلاعب في الأسعار، لاسيما وقت الأزمات، ما أضر بمصالح المصنعين وتجار الجملة وتجار التجزئة والمستهلك.
المقترح يدور حول كيفية إدارة أو امتلاك الدولة للذهب كسلعة، وتفتيت تكتل تجار الذهب الخام، والحد من سيطرتهم على السوق وعملية التسعير، حتى يتسن ضبط حركة الأسعار، ويمكن ذلك من خلال عدة خطوات، تتمثل في إلغاء كافة تراخيص شركات استيراد وتصدير الذهب الخام.
الإلغاء يقتصر فقط على تجارة الخام، وليس الذهب المشغول، بل من الضروة تذليل كافة العقبات أمام المصنعين الذين تحملوا أعباءً كبيرة خلال الأزمة الماضية، مع تعزيز عمليات التصدير للأسواق الخارجية لتعظيم القيمة المضافة للمنتج المصري.
والخطوة التالية، تتضمن إنشاء شركة استثمارية تابعة للبنك المركزي أو أي من بنكي مصر والأهلي، تتولى عملية استيراد وتصدير الذهب الخام، وكذلك حركة تداول الذهب الخام بالأسواق، وتوفيره للتجار والمصنعين وفقًا لسعر البورصة العالمية وسعر الصرف بالبنك المركزي، ومن ثم سيكون للدولة دور في إدارة وامتلاك السلعة، وتوفير بيانات حقيقية حول العرض والطلب بالأسواق، والخطوة الثالثة، تعتمد الشركة شاشات عرض بكافة محلات الذهب لعرض أسعار العادلة إلزامية، تماثل شاشات عرض أسعار العملات في محلات الصرافة، وهي الطريقة التي تعمل بها أسواق الذهب في بعض الدولة العربية ومن بينها الإمارات والسعودية.
الخطو الرابعة، تعقد الشركة التابعة للبنك المركزي مع كبار التجار اتفاقات لتوريد الذهب الخام “الكسر المجمع من الأسواق”، أو افتتاح فروع ومنافذ لتجيمع الذهب من الأسواق، للحفاظ واستقرار المخزون المحلي، ومواجهة أي ضغوط من تجار الخام، لمنع احتكار الذهب أو فرض تسعر موزاي.
كان يمكن أن تقوم بورصة السلع بهذه الخطوة، من خلال امتلاك السلعة، وإعلان الأسعار، لكن القائمين عليها في الوزارة السابقة حاولوا تعزيز الأرباح من مزادات البيع، بوضع رسوم إضافية للمزادات على منصة البورصة السلعية، وهو ما رفضه التجار المتعاملين، لأن سعر الذهب في بورصة السلع سيكون أعلى من سعر السوق، وبالمنطق لماذا يذهب التجار لشراء كيلو ذهب سعره على المنصة مثلا 4.1 مليون جنيه، وسعره في السوق 4 مليون جنيه.
إسناد مهام إمتلاك وإدارة الذهب الخام لشركة تابعة للبنك المركزي، سيمنح السوق والمواطنين حالة من الإطمئنان، فالبنك سيلعب دور الوسيط والمنظم للاستيراد والتداول، لاسيما مع تعزيز حالة الشفافية حول حجم الاستيراد والتصدير وحجم التداول.
حتى فترة السبيعينات، كانت الدولة لا تسمح للشركات والأفراد باستيراد أو تصدير الذهب الخام، مع إسناد عمليات الاستيراد والتصدير لبنك مصر لتوفير احتياجات السوق المحلي من الذهب، ولم تسمح الحكومة للشركات والأفراد باستيراد السبائك إلا مع قرار وزير الاقتصاد “محمد عبد الله مرزبان”، فى أغسطس 1972م.
التطبيق سيحتاج إلى بعض الوقت لضبط الأسعار في السوق، نتيجة المواجهة المحتملة مع كبار التجار، وربما سيؤدي لتعزيز عمليات التهريب في البداية، لكنها ستخمد مع تصدى الأجهزة الأمنية، لاسيما مع ارتفاع تكاليف عمليات التهريب.
ملف سوق الذهب أصبح تحت أعين الدولة والأجهزة الرقابية بصورة أكبر من ذي قبل، بفعل قوة السوق في تحقيق عائدات كبيرة للاقتصاد المحلي عبر تشغيل العمالة وتنمية الصادرات وتوفير العملة الصعبة، ومن ثم فالفترة المقبلة أظنها مختلفة، لاسيما وأن جزءًا كبيرًا منه لا يدخل في نطاق الاقتصاد الرسمي للدولة.