يشهد سوق الألماس الطبيعي، سواء الخام أو المصقول، حالة من الركود المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات، فقد انخفضت مؤشرات الأسعار بشكل ملحوظ عن ذروتها في عام 2022، ولا تلوح في الأفق أي مؤشرات على انتعاش قريب، ويُرجع المحللون هذا الركود إلى مجموعة واسعة من العوامل، منها السياسية (مثل العقوبات المفروضة على الألماس الروسي)، والاقتصادية الكلية (تباطؤ الاقتصاد الصيني)، بالإضافة إلى أسباب داخلية في الصناعة، مثل فشل حملات التسويق العامة وانتشار الألماس الصناعي (الاصطناعي).
كل هذه العوامل تفسّر تدهور سوق الألماس الطبيعي والمصقول، غير أن هناك مشكلة أخرى نادرًا ما تُذكر رغم أنها تمثل تهديدًا جوهريًا وأساسياً للصناعة، وقد تكون هي العامل الحاسم في تدميرها.
لنتخيل سوقًا للسيارات تُباع فيه السيارات وتُعاد بيعها لسنوات دون أن تبلى أو تُستهلك أو تُزال من السوق، ملايين السيارات تُنتج سنويًا، ولكن جميع السيارات السابقة لا تزال موجودة في السوق، من البديهي أن مثل هذا السوق محكوم عليه بالانهيار: فالزيادة المستمرة في المعروض ستؤدي إلى هبوط الأسعار دون تكلفة الإنتاج، مما يُفلس الشركات المصنّعة، هذه الصورة البسيطة تُشكّل الوصف الدقيق لسوق الألماس الحالي.
تراكم ضخم لا يُستهلك
منذ اكتشاف أول مناجم الألماس الأولية عام 1870 وحتى اليوم، تشير التقديرات المتحفظة إلى أن الإنتاج التراكمي للألماس بلغ نحو 5.5 مليار قيراط، ويُشكّل الألماس عالي الجودة المستخدم في الحُلي نحو 30% من هذا الإجمالي، أي حوالي 1.65 مليار قيراط، وبافتراض أن نسبة الألماس المصقول الناتج عن القطع تبلغ 50%، فإن الناتج النهائي هو نحو 825 مليون قيراط من الألماس المصقول.
تاريخيًا، شكّل السوق الأمريكي نحو نصف الطلب العالمي، ما يعني أن السوق الأمريكية تحتفظ اليوم بما لا يقل عن 410 ملايين قيراط من الألماس المصقول المتاح للتداول.
في عام 1900، بلغ عدد سكان الولايات المتحدة نحو 76.2 مليون نسمة، وتشير البيانات إلى أن السوق الأمريكية امتلكت حوالي 5 ملايين قيراط حينها، أي نحو 0.065 قيراط للفرد، أما في عام 2024، ومع وصول عدد السكان إلى 340.1 مليون نسمة، أصبح نصيب الفرد 1.2 قيراط – ما يمثل زيادة بنسبة 1850% خلال 124 عامًا.
المشكلة الجوهرية: الماس لا يفنى
الأسواق التي تراكم السلع بهذا الشكل نادرة للغاية، عادةً ما تُستهلك السلع، كالمنتجات الزراعية والوقود، أو تخرج من السوق مع الوقت بسبب التقادم أو انتهاء عمرها الافتراضي، الاستثناءات الوحيدة تقريبًا هي المعادن الثمينة والألماس، لكن الفرق أن المعادن الثمينة تُخزن عن قصد، وتُستخدم كأصول استثمارية قابلة للتداول والادخار، بينما تراكم الألماس المصقول في السوق هو أثر جانبي قاتل.
لا يمكن اعتبار الألماس الطبيعي أصلًا استثماريًا، نظرًا لاستحالة توحيد معاييره، كل محاولة لتحويله إلى أداة مالية فشلت، لذا، فـ”استهلاك” الألماس المصقول مرادف لتراكمه وتداوله بين الأجيال.
السوق الثانوية تقلب قواعد اللعبة
اليوم، تُباع أحجار الألماس في السوق الثانوية الأمريكية ” إعادة البيع” بأسعار تتراوح بين 20% إلى 60% من سعر السوق الأولية، على سبيل المثال، خاتم خطوبة من «تيفاني آند كو» يحتوي على حجر ألماس 0.53 قيراط اشتُري مقابل 4500 دولار، عند محاولة بيعه، قُدّم أفضل عرض بقيمة 1850 دولارًا فقط (41% من السعر الأصلي)، بينما قدّمت شركات أخرى عروضًا أقل بكثير (1000 دولار و1200 دولار)، الخاتم كان جديدًا، ومع ذلك خسر ما بين 60% و80% من قيمته عند خروجه من المتجر.
ما السبب؟ في السيارات، السعر يعتمد على الاستخدام والاهتراء، لكن الألماس لا يصدأ ولا يتقادم. فلماذا تنخفض قيمته بهذه الطريقة؟
الإجابة تكمن في حقيقة أن السوق الثانوية تعكس السعر الحقيقي للألماس، المتوازن بين العرض والطلب، وفجوة السعر بين السوق الأولية والثانوية تعكس تأثير تراكم المعروض من الألماس على مدى أكثر من قرن.
الاتجاه القادم: انهيار السوق الأولية
إذا صحّت الفرضية بأن أسعار السوق الثانوية هي المعيار الواقعي، فإن أسعار الألماس المصقول ستستمر في الانخفاض حتى تصل إلى مستويات السوق الثانوية، هذا الانحدار سيُدمّر ربحية سلسلة التوريد بأكملها، من المناجم وحتى تجار التجزئة.
وقد بدأت هذه الموجة فعلًا منذ أن انهارت السوق الاحتكارية الموحدة التي كانت تقودها «دي بيرز» سابقًا،ولم يعد التسويق قادرًا على اختراق أسواق جديدة أو خلق طلب كافٍ لموازنة المعروض المتراكم، حتى حملات التسويق العامة التي كانت تُنجز سابقًا لم تعد قادرة على إيقاف الانحدار، ناهيك عن المجلس الجديد للألماس الطبيعي (NDC) الذي يفتقر للإمكانيات اللازمة.
نهاية الصمت: دي بيرز والانسحاب المرتقب
منذ عام 2014، بدأت «دي بيرز» بدراسة السوق الثانوية بجدية عبر معهد التقييم الدولي للألماس، وفي عام 2019، توقفت فجأة هذه الدراسات دون نشر تقارير تفصيلية، ومن اللافت أن هذه الفترة تزامنت مع اتساع الفجوة السعرية بين السوقين الأولية والثانوية، ما يدفع للاعتقاد أن شركة «أنجلو أمريكان» – المالكة لدي بيرز – بدأت فعليًا التفكير في الانسحاب من قطاع الألماس.
عبارة «الألماس للأبد» لم تعد تعني الأبدية الرومانسية، بل باتت تشير إلى مأزق وجودي: الألماس لا يختفي، ولا يتقادم، ولا يُستهلك، لكنه يتراكم… ومعه تتآكل قيمته، وتنهار الصناعة التي لطالما بنَت أساطيرها على الندرة والخلود.