لم يعد الذهب، الملاذ الآمن الذي يسعى إليه المستثمرون في أوقات الأزمات، مجرد معدن نفيس يحمي المدخرات، بل تحوّل في السنوات الأخيرة إلى محور سباق عالمي غير مشروع يخلّف وراءه أزمات بيئية، وانتهاكات إنسانية، وتمويلًا للجماعات المسلحة عبر قارات مختلفة.
مناجم تحت الأرض… وأرواح معلّقة بالمجهول
في جنوب أفريقيا، تعود الحياة إلى المناجم المهجورة التي تسيطر عليها عصابات مسلّحة، حيث ينزل إليها عمّال فقراء، يُطلق عليهم محليًا اسم “زاما-زاما”، ليخوضوا مغامرات محفوفة بالموت من أجل استخراج الذهب، الأمر لا يقتصر على المخاطر الطبيعية داخل باطن الأرض، بل يمتد إلى اشتباكات دامية بين العصابات نفسها.
أما في جبال الأنديز في بيرو، فقد شهد أحد أكبر المناجم هناك، “بوديروسا”، سلسلة هجمات دامية أودت بحياة عشرات العمال خلال السنوات الثلاث الماضية، في مشهد يعكس كيف أصبح الذهب وقودًا لصراعات دموية.
الأمازون… ذهب مغمّس بالزئبق
في عمق غابات الأمازون، يتجاوز الخطر حد المناجم ليطال البيئة والمجتمعات الأصلية. عمليات التنقيب غير الشرعي هناك تلوّث الأنهار بالزئبق وتدمّر النظم البيئية، فيما ينقل المنقبون معهم الملاريا والكحول والمخدرات إلى القرى المعزولة.
يقول أحد زعماء قبائل الموندوروكو: “حين يأتي التعدين الجشع، تأتي معه الأمراض والانقسامات”.
الذهب القذر يُلمّع في مراكز عالمية
وراء الحدود، يتحول الذهب المستخرج بطرق غير مشروعة إلى “معدن شرعي” عبر مراكز التجارة العالمية.
وتشير تقارير دولية إلى أن الإمارات أصبحت محطة رئيسية لتكرير الذهب ودمغه بشهادات جديدة، قبل إعادة تصديره إلى أسواق كبرى مثل سويسرا والمملكة المتحدة. هذه العملية وصفتها منظمات رقابية بأنها “غسيل للذهب”، في ظل ضعف الرقابة على سلاسل التوريد العالمية.
وقود للنزاعات المسلحة
تتقاطع تجارة الذهب غير المشروع مع الصراعات الدائرة، في كولومبيا، يسيطر تنظيم “كلان ديل غولفو” الإجرامي على طرق تهريب الذهب ويموّل أنشطته العنيفة عبر هذا المورد.
وفي السودان، تحوّل الذهب إلى شريان تمويل رئيسي لقوات الدعم السريع، التي تُتهم بارتكاب جرائم حرب خلال النزاع الدائر في البلاد.
معركة الحكومات مع المستحيل
ورغم محاولات الحكومات للتصدي للظاهرة، من خلال تشديد القوانين وزيادة الرقابة كما فعلت البرازيل مؤخرًا، إلا أن اتساع رقعة الظاهرة، وتغلغل شبكات الفساد، يجعل من المعركة أكثر صعوبة.
الخبراء يؤكدون أن أي مواجهة جادة لا بد أن تتجاوز المناجم، لتصل إلى قلب شبكات التهريب والتبييض التي تربط المنتج بالمستهلك النهائي.
السباق غير المشروع نحو الذهب لا يقتصر على مناجم بعيدة أو عصابات محلية، بل بات جزءًا من الاقتصاد العالمي نفسه، ذهب ملوّث بالدم والزئبق يدخل أسواق الاستثمار والمجوهرات الفاخرة، ليطرح سؤالًا محوريًا: إلى أي مدى يمكن للذهب أن يبقى “ملاذًا آمنًا”، بينما تكلفته الحقيقية تُدفع من أرواح البشر وصحة البيئة؟