في كل مرة تهتز فيها منطقة الشرق الأوسط على وقع طبول الحرب، يعود الذهب إلى الواجهة، ليس فقط كأصل آمن للمستثمرين، بل كأداة استراتيجية في يد الدول.
ولعل إيران واحدة من أبرز النماذج التي تكشف هذا الارتباط العميق بين المعدن النفيس وتقلبات الجغرافيا السياسية والاقتصادية، فالعلاقة بين إيران والذهب لم تبدأ اليوم، بل تمتد جذورها إلى آلاف السنين، منذ أن كانت الإمبراطوريات التي تعاقبت على الأرض الفارسية تنسج قوتها بذهب المناجم وتدير به حروبها وأسواقها.
في العصور القديمة، وبالتحديد خلال الحقبتين الأخمينية (550–330 ق.م) والساسانية (224–651 م)، لعبت مناجم الذهب في كرمان وأذربيجان دورًا محوريًا في تمويل الجيوش وإبراز الهيبة الإمبراطورية. كان الذهب آنذاك عملة السلطة ومصدرًا للنفوذ، يستخدم في دفع أجور الجيوش المرتزقة، كما جرى خلال الحروب الفارسية اليونانية، ومنها معركة ماراثون الشهيرة عام 490 قبل الميلاد.
ومع دخول العهد الإسلامي، ظل الذهب في قلب الاقتصاد الإيراني، استخدمه السلاجقة، وغيرهم من الحكام، كاحتياطي استراتيجي، خصوصًا في أوقات الاضطراب عبر طريق الحرير، بل إن إيران دفعت فديات ضخمة من الذهب للمغول في القرن الثالث عشر لتفادي الدمار، ما ساعد على بقاء بعض المدن وعودة الاستقرار تدريجيًا.
أما في العصر الصفوي (1501–1736 م)، فقد جمع الشاه إسماعيل الأول كميات كبيرة من الذهب من التجارة مع الهند. تم توجيه هذه الموارد لاحقًا لتعزيز القوة العسكرية، عبر شراء المدفعية من البرتغاليين في صراعه ضد العثمانيين، خصوصًا في معركة “تشالديران” عام 1514. كما كان الذهب الإيراني يُباع لتجار أوروبيين، وعلى رأسهم الهولنديون، مقابل بنادق ومعدات عسكرية.
خلال القرن التاسع عشر، ومع تفاقم الضغوط الخارجية في عهد الدولة القاجارية (1796–1925)، لجأت إيران إلى الذهب مجددًا لتعويض الخسائر الناتجة عن اتفاقيات مجحفة، مثل معاهدة تركمانشاي (1828) مع روسيا، ولتمويل جيوشها خلال الحروب الروسية–الفارسية. كان الذهب آنذاك وسيلة لشراء السيادة، أو ما تبقى منها.
ومع دخول القرن العشرين، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، اتخذ الذهب طابعًا مؤسسيًا أكثر. خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ارتفع إنتاج الذهب المحلي، واستخدم كدعامة لاحتياطات البنك المركزي، وخلال حرب إيران–العراق (1980–1988)، تم بيع كميات كبيرة من الذهب في صفقات سرية لشراء السلاح من كوريا الشمالية.
وفي العقد الأول من القرن الحالي، استمر الذهب في لعب دور خفي، بين عامي 2012 و2013، أُبرمت صفقات لتصدير الذهب عبر تركيا بنحو 6 مليارات دولار، استخدمت لشراء أنظمة دفاعية من روسيا. وفي عام 2020، حين بلغ الاحتياطي الإيراني من الذهب نحو 90 طنًا، تم تسريب كميات كبيرة من المعدن عبر وسطاء إلى الخارج، لتمويل حلفاء إقليميين مثل حزب الله والنظام السوري، كما استُخدم في صفقات عسكرية مع روسيا شملت أنظمة “S-300”.
واليوم، مع تصاعد التوترات مجددًا إثر الضربات الإسرائيلية على إيران، تعود الأسئلة القديمة إلى الواجهة: هل تلجأ طهران إلى بيع جزء من احتياطيها الذهبي لتمويل جولة جديدة من المواجهة؟ وهل يتحول الذهب مجددًا من وعاء استثماري إلى رافعة لحرب إقليمية محتملة؟
الإشارات ليست بعيدة، فالأسواق تترقب، والذهب يرتفع، كما حدث في الأيام الأخيرة. وإذا استُعيدت سيناريوهات العقود الماضية، فإن الذهب قد لا يبقى مجرد ملاذ للمستثمرين، بل أداة في يد الدولة تسعى من خلالها للنجاة وسط العواصف.