يدخل الذهب نهاية العام بعد أن حقق أحد أقوى أداءاته متعددة السنوات في تاريخه الحديث، إذ ارتفعت أسعاره بنحو 65% خلال العام الجاري وحده، وبما يزيد على 110% خلال العامين الماضيين مجتمعين، ليعود بقوة إلى صدارة نقاشات توزيع الأصول عالميًا، ورغم أن حجم الصعود فاجأ كثيرين، فإن الأسس التي بنيت عليها هذه الموجة بدأت قبل سنوات، وتعكس تحولًا عميقًا في البيئة الاقتصادية الكلية والجيوسياسية والمؤسسية المحيطة بالذهب.
الطريق الطويل إلى موجة الصعود الحالية
يرجع بعض المراقبين بداية موجة الصعود الحالية للذهب إلى عام 2020، عندما أدى تفشي جائحة كوفيد-19 إلى تيسير نقدي غير مسبوق، وحزم تحفيز مالية ضخمة، وانهيار العوائد الحقيقية، وقد منح ذلك الذهب دفعة قوية، في إطار دوره التقليدي كأداة تحوط ضد تآكل قيمة النقود وعدم الاستقرار المالي.
لكن نقطة التحول الأهم جاءت لاحقًا، فبيئة أسعار الفائدة المنخفضة والتحفيز المرتفع في 2021 أدت إلى قفزة حادة في معدلات التضخم، ما أجبر البنوك المركزية على التحول السريع إلى سياسة تشديد قوية في 2022.
نظريًا، كان من المفترض أن يشكل ذلك ضغطًا شديدًا على الذهب، إذ إن ارتفاع أسعار الفائدة وقفزة العوائد الحقيقية، حيث ارتفعت العوائد الحقيقية على سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات من نحو -1.2% إلى +2.5% بين 2022 و2023 ، كانت تاريخيًا من أقوى العوامل السلبية للمعدن.
إلا أن الذهب لم يتراجع ويعود ذلك إلى ما شهده عام 2022 من تطورات مفصلية، أبرزها الغزو الروسي لأوكرانيا وتجميد الاحتياطيات الأجنبية الروسية من قبل الحكومات الغربية، وهو ما مثّل لحظة فاصلة في النظام المالي العالمي، فللمرة الأولى، جرى “تسليح” احتياطيات دولة كبرى، ما غيّر جذريًا نظرة العديد من البنوك المركزية، لا سيما خارج المعسكر الغربي، إلى مخاطر الاحتفاظ بأصول مقومة بالدولار.
البنوك المركزية في صدارة المشهد
منذ عام 2022، برزت البنوك المركزية كمشترٍ هامشي مهيمن للذهب، في وقت خفّض فيه المستثمرون الغربيون انكشافهم، وهو ما بدا واضحًا في الهبوط المطول لحيازات صناديق المؤشرات المتداولة المدعومة بالذهب بنحو 800 طن بين أبريل 2022 والقاع المسجل في مايو 2024، وخلال هذه الفترة، قفز الطلب الرسمي، حيث تجاوزت مشتريات البنوك المركزية 1000 طن سنويًا في كل عام من 2022 إلى 2024، مع تباطؤ طفيف فقط خلال العام الجاري.
وكانت هذه المشتريات مدفوعة بأسباب استراتيجية لا تكتيكية، أبرزها تقليص الاعتماد على الدولار، وتنويع الاحتياطيات، وفي بعض الحالات استخدام الذهب كبديل جزئي للأصول الدولارية.
هذا التباين بين الطلب الرسمي والخاص كان حاسمًا، إذ امتص ضغوط البيع في فترة كان من المفترض أن تؤدي فيها العوائد المرتفعة إلى هبوط أسعار الذهب.
الدور المتزايد للصين
لعبت الصين دورًا متناميًا في دعم أسعار الذهب خلال السنوات الأخيرة، سواء عبر المشتريات الرسمية من بنك الشعب الصيني، أو من خلال ارتفاع الطلب الخاص، فالتراجع الممتد في سوق العقارات الصيني، الذي يدخل عامه الرابع، دفع المستثمرين للبحث عن بدائل، لتبرز المعادن الثمينة، وعلى رأسها الذهب والفضة والبلاتين، كملاذات مفضلة للقيمة.
وتكمن أهمية ذلك في أن الطلب الآسيوي أقل حساسية لتحركات أسعار الفائدة مقارنة بالتدفقات الاستثمارية الغربية، ما أدى إلى تراجع هيمنة العوائد الحقيقية والدولار كعوامل مفسرة لتحركات الأسعار قصيرة الأجل. ويعد صمود الذهب خلال قفزة العوائد الحقيقية في 2022–2023 دليلًا واضحًا على هذا التحول في هيكل الطلب.
أحداث ذات أثر طويل الأمد
عادة ما يكون تأثير الصدمات الجيوسياسية على أسعار الذهب مؤقتًا، إذ يتلاشى مع انحسار المخاطر المباشرة. لكن موجة شراء البنوك المركزية الحالية مختلفة، لأنها متجذرة في اعتبارات جيوسياسية وهيكلية، فتجميد الاحتياطيات السيادية وتزايد تفكك النظام المالي العالمي أدخلا عنصرًا دائمًا في الطلب على الذهب، يُرجّح استمراره لسنوات.
وتزامن ذلك مع تحول أوسع في النظرة إلى الذهب. فبعد أن كان يُنظر إليه لعقود، خصوصًا في الغرب، كتحوط دوري ضد التضخم أو تراجع العوائد الحقيقية، بات يُنظر إليه بشكل متزايد كأصل استراتيجي يوفر حماية من العقوبات المالية، وهيمنة السياسة المالية، وتآكل الثقة في العملات الورقية.
المخاطر مع التوجه نحو 2026
رغم الزخم القوي، لا يخلو الذهب من المخاطر خلال الفترة المقبلة، وعلى المدى القريب، تبرز مخاطر فنية مرتبطة بالتمركزات وتدفقات الاستثمار، إذ إن المكاسب الكبيرة في الذهب والفضة خلال 2025 تعني أن إعادة موازنة مؤشرات السلع الرئيسية، وعلى رأسها مؤشر بلومبيرج للسلع الذي يضم وزنًا كبيرًا للمعادن النفيسة، ستؤدي إلى عمليات بيع ملحوظة في أسواق العقود الآجلة، خلال فترة تمتد خمسة أيام اعتبارًا من 8 يناير، وقد تولد هذه العملية تقلبات قصيرة الأجل، وسيكون مدى قدرة السوق على امتصاصها عاملًا حاسمًا لاتجاه الأسعار في الربع الأول.
وعلى نطاق أوسع، تظل استدامة الطلب محل تساؤل، إذ إن ارتفاع الأسعار يزيد من القيمة الاسمية لاحتياطيات البنوك المركزية، ما قد يؤدي لاحقًا إلى تهدئة وتيرة الشراء الرسمي، كما أن عودة ارتفاع العوائد الحقيقية، أو تحسن شهية المخاطرة عالميًا، أو قوة الدولار، أو حدوث انفراج جيوسياسي ملموس، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، قد تقلص بعض علاوة المخاطر المضمنة في الأسعار.
ما الذي قد يدفع الموجة التالية للصعود؟
على الجانب الآخر، لا تزال عدة سيناريوهات قادرة على دفع الذهب إلى مستويات قياسية جديدة، وربما نحو مستهدف 5000 دولار للأوقية بنهاية 2026، فاستمرار التضخم المرتفع بالتزامن مع خفض أسعار الفائدة في بيئة نمو ضعيف قد يعيد مخاوف الركود التضخمي، وهي بيئة تاريخيًا داعمة للذهب، كما تبرز هيمنة السياسة المالية كعامل متزايد الأهمية، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث أصبحت مدفوعات الفائدة من أكبر بنود الإنفاق الفيدرالي، ما يعزز الطلب على الأصول الصلبة.
وتشكل التدخلات السياسية في استقلالية البنوك المركزية خطرًا صعوديًا إضافيًا، إذ إن أي ضغوط على الاحتياطي الفيدرالي لتغليب النمو أو الاعتبارات المالية على استقرار الأسعار من شأنها تقويض الثقة في العملات الورقية، وهو ما ينعكس إيجابًا على الذهب، كما تظهر تجارب تاريخية عدة.
الجغرافيا السياسية: مسعّرة ولكن لم تُستنفد
رغم أن جزءًا من المخاطر الجيوسياسية أصبح مسعرًا بالفعل في أسعار الذهب، فإن افتراض انتهاء القصة يبدو سابقًا لأوانه، فالتآكل التدريجي للنظام العالمي لما بعد الحرب الباردة، وتنامي التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، يمثلان مصدرًا دائمًا لعدم اليقين، وفي مثل هذه البيئة، يظل الذهب مدعومًا بطبيعته كأصل صلب، وأي تصعيد إضافي، تجاري أو تكنولوجي أو مالي، قد يدفع الأسعار لمزيد من الارتفاع.
يعكس أداء الذهب خلال العامين الماضيين أكثر من مجرد دورة اقتصادية مواتية، بل يشير إلى تحول أعمق في النظام المالي العالمي، حيث أصبحت الثقة والتنويع والمرونة لا تقل أهمية عن العائد والنمو، ومع التوجه نحو 2026، لم يعد الذهب مجرد أداة تحوط ضد التضخم أو تراجع أسعار الفائدة، بل بات أصلًا محوريًا في عالم يتسم بالتجزئة والضغوط المالية وعدم اليقين الجيوسياسي.














































































