أثار إغلاق شركة “ف. ج.” صدمة في الأسواق المصرية، بعد انهيار رصيد الشركة من الذهب، وصعوبة التزامها باسترداد منتجاتها من المشغولات الذهبية المرصعة بالأحجار من التجار والمواطنين.
وبحسب مصادر في السوق، فإن الشركة تراكمت عليها ديون من الذهب تقدّر بمئات الكيلوجرامات، نتيجة ممارسات تجارية مثيرة للجدل تتعلق بما يُعرف بـ”مرتجعات الأحجار”.
تشير مصادر من السوق إلى أن الخسائر الفادحة التي تكبّدها أصحاب شركات «ف. ج.»، بلغت نحو 200 كيلو ذهب، نتيجة الانخراط في تجارة تُعرف بين التجار بـ«البيع على الهواء» — وهي ممارسات تشبه المقامرة أو البيع الوهمي، أو المضاربة على الأسعار بدون غطاء فعلي.
هذه الخسارة دفعتها للتوقف عن رد مرتجعات الأحجار، تاركة خلفها عشرات المواطنين والتجار دون تعويض أو حق، ووسط غياب أي إطار قانوني ملزم، لم يجد المتضررون وسيلة سوى الاستسلام للأمر الواقع.
رغم أن كثير من المصادر أكدت أن الشركة كانت ملتزمة فعليًا بتطبيق هذه السياسية ورد المرتجعات دون خصم وزن الأحجار، لكن الأزمة دفعتها لذلك، ومن ثم حرر بعض التجار محاضر للشركة ووكلائها من تجار الجملة.
تطبق سياسة مرتجعات الأحجار داخل السوق المحلي منذ عام 2009 تقريبًا، حيث تقوم على بيع مشغولات ذهبية مرصعة بأحجار صناعية،كالزجاج والزركون الأمريكي، واحتساب السعر على أساس الوزن الكلي للمشغول (ذهب + الأحجار) دون خصم وزن الأحجار، وتتعهّد الشركات وفقًا لهذه السياسة باسترداد المشغولات مجددًا بنفس الوزن، أي بإعادة شرائها وكأنها ذهب صافٍ، في حال البيع أو الإرجاع.
هذه السياسة وسيلة لتحقيق ثراء سريع، وفاحش داخل السوق، نتيجة بيع الزجاج أو الزركون بقيمة الذهب، وهناك ارقام تتحدث عن نسب محددة في الكيلو، كأن يرصع الكيلو بنحو يتراوح بين 150 و 200 جرام من الذهب، بحسب مصادر من داخل السوق.
في الوقت الذي تلتزم فيه بعض الشركات الجادة بتلك السياسة، تظهر شركات أخرى تعلن فجأة عن توقفها عن الشراء أو تغلق أبوابها تمامًا، كما حدث مع «ف. ج.»، وبعض هذه الكيانات تعود لاحقًا بعلامة تجارية جديدة أو شعار (لوجو) مختلف، دون الالتزام برد المشغولات السابقة، ما يعرض المواطن والتاجر للخسارة.
وهذه شهادة تلخّص عمق الأزمة الأخلاقية والمهنية في سوق الذهب، فقد قال لي أحد أصدقائي من كبار تجار الذهب:أنا بتحمّل الخسارة وبدفع من جيبي علشان ما أخسرش عملائي، مفيش حد يقدر يضمن إن أي شركة هتلتزم بسياسة مرتجعات الأحجار، في الآخر، إحنا اللي بندفع أرباح الشركات دي من جيوبنا.
وفي مشهد يعود إلى عام 2019، ظهر أحد أعضاء شعبة الذهب في فيديو انتشر بين تجار القطاع، وهو يرفع انسيالًا ذهبيًا يزن 7.30 جرام، ويكشف أن القطعة مرصعة بثلاثة أحجار تمثل نحو 23% من وزنها، ووصف ذلك قائلًا: “ده نوع من الاستهبال”، منتقدًا الشركات التي تُحمّل المستهلك قيمة الزجاج بسعر الذهب، ثم تبرر ذلك بأنها تسترد القطعة بنفس الوزن، هذا الفيديو، رغم مرور سنوات عليه، يُجسد جوهر الأزمة التي تضرب سوق الذهب المصري، وهي سياسة مرتجعات الأحجار.
المشكلة الأكبر تكمن في غياب إطار قانوني ينظم مسألة مرتجعات الأحجار، ويُلزم الشركات برد المشغولات أو توضيح سياساتها بشفافية، دون تنظيمي قانوني من يضمن لنا عدم تعرض أي شركة لنفس الموقف، ومعه يضيع حقوق المواطنين.
ورغم أن وزير التموين السابق، الدكتور علي المصيلحي، حاول طرح حلول قانونية بدعم من عدد من الشركات الكبرى، إلا أن انسحاب إحدى الكيانات الرائدة من الاتفاق أدى إلى فشل المبادرة.
في بيانين رسميين نُشرا عبر صفحتها على “فيسبوك” يومي 3 أكتوبر و19 نوفمبر 2021، أعلنت الشعبة العامة للذهب والمجوهرات باتحاد الغرف التجارية عن عقد اجتماعات موسعة مع مجلس إدارتها وكبار مصنعي وتجار الذهب، لمناقشة سياسة مرتجعات الأحجار، وطرحت الاجتماعات مقترحات لوضع صيغة تعاقدية قانونية تضمن حقوق التجار في استرداد المشغولات الذهبية دون خصم وزن الأحجار، إلى جانب تنظيم العلاقات بين التجار أنفسهم وفق آليات تضمن الشفافية والالتزام بالشروط المتفق عليها.
ورغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على تلك الاجتماعات والتصريحات الرسمية، لكن إلى الآن لم يحدث شيئ.
على المستوى الشخصي، لا أؤيد استمرار تطبيق سياسة مرتجعات الأحجار، فقد أثبتت مع الوقت أنها تُلحق الضرر بالتاجر والمستهلك على حدٍّ سواء، لكنني في الوقت ذاته أدرك أن الوضع أصبح معقّدًا ومتشابكًا إلى حدٍّ كبير، ويصعب تفكيكه دون أن تتأذى شركات قائمة بالفعل داخل السوق، ومن ثم، فإن الحد الأدنى المطلوب هو وجود إطار تنظيمي وقانوني يُقنّن تطبيق هذه السياسة، ويحمي حقوق التاجر والمستهلك على حد سواء، دون أن يضر الشركات الملتزمة.
أتذكر قبل سنوات، تعرضت لموقف مشابه لما يتعرض له اليوم عشرات من المواطنين الذين خدعتهم سياسة “مرتجعات الأحجار”، ذهبتُ لبيع بعض المشغولات الذهبية الخاصة بأسرتي، وكانت مرصعة بأحجار زجاجية، وأصرّ التاجر على تكسير الأحجار أولًا، وهو ما ترتب عليه خسارتي نحو 3 جرامات من الوزن .
لم أُحرر محضرًا، لم أشتكِ، لم أُقاضِ الشركة التي باعت لنا هذه المشغولات، لم أفعل شيئًا، ببساطة، لأنني، مثل ملايين المصريين، لا أريد أن أفتح على نفسي جبهة نزاع جديدة في ظل ظروف حياتية ضاغطة، وجدتُ نفسي أُسلّم بخسارتي، وأواسي نفسي بفارق السعر، كوني اشتريت الذهب في وقت كان أرخص فيه.
وقتها أدركت أن من يروّج لهذه السياسة – داخل الشركات – يراهن على “السلبية” المتأصلة في المستهلك المصري، المواطن الذي لا يملك رفاهية الوقت أو الجهد أو المال للجوء إلى القضاء.
السبب الثاني الذي يشجّع استمرار هذه الممارسات، أن المستهلك المصري غالبًا ما يحتفظ بمشغولاته الذهبية لفترات طويلة، ثم يبيعها بعد ارتفاعات ملحوظة في الأسعار، ما يُغطي على أي خسارة نتيجة تكسير الأحجار، وفقدان جزاء من الوزن، ليخرج بأرباح “شكلية”، ويغلق الملف دون ضجيج.
صديقٌ لي، ذهب لبيع بعض المشغولات الذهبية التي كانت تحتوي على كمية كبيرة من الأحجار، فوجئ بأن التاجر سيقوم بتكسير الأحجار الزجاجية لاحتساب وزن الذهب فقط، وكان حجم الفقد المتوقع يصل إلى 8 جرامات كاملة!
أُصيب بحالة من الفزع، واتصل بي على الفور: إزاي ده يحصل؟ التاجر بيقولي الشركة قفلت.
مثل هذه الحالات لا تمثل مجرد مخالفات تجارية، بل تُعد انتهاكًا مباشرًا لحقوق المستهلك، وغيابًا مؤلمًا لأي شكل من أشكال الرقابة أو المحاسبة.
لا يزال السوق المصري في حاجة ماسّة إلى تشريع واضح وصارم يُنظم عمليات البيع والمرتجعات للمشغولات المرصعة، حماية حقوق المواطنين والتجار من ممارسات الشركات غير الملتزمة.
متى يستمر غياب الدولة عن تنظيم هذا القطاع الحيوي؟ وهل يتكرر سيناريو “ف. ج.” مع شركات أخرى دون محاسبة؟، ومن يضمن لنا الورثة في استمرار التزامهم تجاه التجار والمواطنين.
في ظل استمرار تجاهل القضية، يظل المواطن والتاجر هما الحلقة الأضعف… يلبسون الأحجار، ويدفعون ثمن الذهب.