تشهد أسعار الذهب موجة صعود تاريخية غير مسبوقة، حيث واصل المعدن النفيس تسجيل قمم سعرية جديدة، ليصل خلال الأسبوع الثاني من أكتوبر 2025 إلى مستوى 4,000 دولار للأوقية، ويأتي هذا الارتفاع في وقت تشير فيه تقارير دولية إلى أن أسعار الذهب تضاعفت تقريبًا خلال أقل من عامين، مدفوعة بإقبال واسع من البنوك المركزية على زيادة احتياطياتها من السبائك، إلى جانب تدفقات قوية من المستثمرين نحو صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب.
ويُعزى هذا الاهتمام المتزايد بالذهب إلى تصاعد المخاطر الجيوسياسية، ما دفع العديد من البنوك المركزية إلى إعادة النظر في اعتمادها على الدولار الأمريكي، والبحث عن أصول أكثر أمانًا واستقلالية، كما ساهم الأداء المتقلب لأسواق السندات خلال العام الجاري في تعزيز جاذبية الذهب، في ظل تراجع الثقة في أدوات الدخل الثابت التقليدية.
وفي هذا السياق، توقعت مؤسسات مالية كبرى، من بينها «جولدمان ساكس»، أن تمتد موجة الصعود لتدفع أسعار الذهب إلى مستويات تقترب من 5,000 دولار للأوقية، خاصة إذا تصاعدت الضغوط السياسية على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
ورغم هذه التطورات، ترى بعض البنوك المركزية أن الأوضاع المالية العالمية لا تزال قابلة للاحتواء على المدى المتوسط، فقد أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد ونائبها لويس دي جيندوس، خلال مؤتمر صحفي في سبتمبر 2025، أن عوامل مثل ارتفاع الرسوم الجمركية، وقوة اليورو، وتزايد المنافسة العالمية، لا تزال تضغط على وتيرة النمو الاقتصادي، إلا أنهما أشارا إلى أن تأثير هذه العوامل من المرجح أن يتراجع خلال العام المقبل، مع استمرار التزام البنك المركزي الأوروبي باستهداف معدل تضخم يبلغ 2% على المدى المتوسط.
ويرى خبراء أن التحول العالمي نحو الذهب يعكس قناعة متزايدة بأن المعدن الأصفر لم يعد مجرد أداة تحوط ضد التضخم، بل أصبح عنصرًا استراتيجيًا لحماية الاحتياطيات النقدية في عالم تتزايد فيه مخاطر العقوبات المالية وتسييس العملات، فالذهب، بخلاف الأصول المقومة بالدولار، يتمتع بصفة الحياد السياسي، ويصعب مصادرته أو التأثير عليه بقرارات سيادية، ما يجعله ملاذًا مفضلًا في أوقات الاضطراب.
وتشير بيانات مؤسسات استثمارية إلى أن البنوك المركزية أضافت مئات الأطنان من الذهب إلى احتياطياتها خلال النصف الأول من 2025، مع تصدر دول الأسواق الناشئة هذا الاتجاه، في إطار مساعٍ واضحة لتنويع الاحتياطيات بعيدًا عن الدولار الأمريكي.
كما أوصى محللون ومستشارون ماليون المستثمرين بتخصيص نسبة تتراوح بين 5% و10% من محافظهم الاستثمارية للذهب، سواء عبر السبائك أو الصناديق المتداولة، في ظل استمرار المخاطر الجيوسياسية وعدم اليقين بشأن السياسات النقدية.
ويؤكد محللون أن ما يحدث حاليًا يمثل انعكاسًا لاتجاه تاريخي طويل، إذ كانت البنوك المركزية لعقود بائعة صافية للذهب، قبل أن تعود بقوة إلى الشراء. وقد ساهم تصاعد الصراعات الدولية، من الحرب الروسية الأوكرانية إلى التوترات المستمرة في الشرق الأوسط، في تعزيز هذا التحول، إلى جانب تنامي القلق من الاعتماد المفرط على الدولار كعملة احتياط عالمية.
وتبرز الصين كأحد أكبر المشترين للذهب عالميًا، إلى جانب عدد من البنوك المركزية الآسيوية، بينما بدأت بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا، في تعزيز احتياطياتها من المعدن النفيس. ويعكس هذا التوجه إعادة تقييم أوسع للنظام النقدي العالمي، خاصة في ظل ارتفاع مستويات الديون السيادية وتراجع الثقة في العملات الورقية على المدى الطويل.
ويرى خبراء أن السياسات النقدية التوسعية، بما في ذلك طباعة النقود وبرامج التيسير الكمي، رغم دورها في دعم الاقتصادات خلال الأزمات، تؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل القوة الشرائية للعملات. ومع ارتفاع تكاليف خدمة الديون السيادية، تجد العديد من الدول نفسها مضطرة للضغط باتجاه بيئة أسعار فائدة منخفضة، وهو ما يعزز بدوره جاذبية الذهب كأصل لا يدر عائدًا لكنه يحافظ على القيمة.
وفي ظل هذه المعطيات، تشهد تدفقات رؤوس الأموال العالمية تحولًا ملحوظًا من البحث عن العائد إلى البحث عن الأمان والاستقرار. ومع تراجع الثقة في أدوات الدخل الثابت وارتفاع مستويات المخاطر، يعيد المستثمرون والبنوك المركزية على حد سواء النظر في المحافظ التقليدية، ويتجهون بشكل متزايد إلى الذهب، إلى جانب بعض الأصول البديلة الأخرى.
ورغم استمرار الدور المحوري للدولار الأمريكي وسندات الخزانة في النظام المالي العالمي، فإن الذهب يواصل ترسيخ مكانته كأصل استراتيجي في فترات عدم اليقين. ومع بقاء المشهد السياسي والاقتصادي العالمي ضبابيًا، يرجح محللون أن يظل الذهب مدعومًا بقوة، مع احتمالات مواصلة الصعود طالما استمرت التوترات والمخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي.















































































