عاد الذهب ليتصدر واجهة المشهد الاقتصادي العالمي باعتباره أحد أكثر الأصول قدرة على الصمود في وجه الأزمات، في وقت تتزايد فيه المخاوف الجيوسياسية وتتآكل فيه الثقة بالأدوات المالية التقليدية، هذا التحول لم يقتصر على الأسواق الدولية أو البنوك المركزية، بل امتد إلى السوق المحلي في مصر، حيث تغيّرت طبيعة التعامل مع الذهب من مجرد وعاء ادخاري تقليدي إلى أداة استثمارية تحكمها معادلات جديدة.
هذا الواقع كان محور نقاش موسّع في برنامج «حروف الجر» على إذاعة نجوم إف إم، الذي استضاف أسامة زرعي، مدير إدارة البحوث والاستثمار بشركة Gold Era، في حوار كشف الكثير من ملامح التحول الهيكلي الذي يشهده سوق الذهب، محليًا وعالميًا.
اضطراب السوق المحلي بعد كورونا
أفرزت جائحة كورونا اختلالات عميقة في سوق الذهب المحلي بمصر، كشفت عن هشاشة النموذج التقليدي المعتمد على محلات الصاغة، وعمّقت الفجوة بين السعر الحقيقي للذهب وما يصل إلى المواطن العادي، فخلال فترات قصيرة من اليوم الواحد، كانت الأسعار تشهد تذبذبات حادة، بينما اتسعت المسافة بين سعري الشراء والبيع، ما خلق حالة من الارتباك وعدم اليقين لدى المتعاملين.
هذا الواقع جعل الوصول إلى السعر العادل مهمة شاقة، خصوصًا مع غياب آلية شفافة تتيح للمستهلك متابعة حركة الذهب لحظيًا، واعتماد السوق بشكل شبه كامل على التسعير اليدوي داخل المحال التقليدية، وما يصاحبه من تفاوت في الأسعار وتقديرات غير موحدة.
هذه الأوضاع خلقت حالة من عدم اليقين، وجعلت المواطن العادي يتعامل مع الذهب بمنطق الخوف والترقب، بدلًا من التخطيط الاستثماري، وهو ما اعتبره زرعي خللًا هيكليًا استدعى البحث عن نموذج مختلف يعيد تنظيم العلاقة بين المستثمر والسوق.
جولد إيرا… من فكرة إلى نموذج بديل
في هذا السياق، برزت فكرة جولد إيرا Gold Era كنموذج يسعى إلى كسر احتكار القنوات التقليدية، وتحويل سوق الذهب إلى تجربة رقمية مفتوحة، وسعي لإعادة تنظيم العلاقة بين المواطن وسوق الذهب، حيث أن الفكرة الأساسية لم تكن بيع الذهب بقدر ما كانت إتاحة الوصول العادل إليه، بل خلق منصة رقمية تُعيد تعريف مفهوم الاستثمار في المعدن النفيس، وتمنح المستخدم أداة واضحة وشفافة تمكّنه من الشراء أو البيع وفق السعر الحقيقي، عبر منصة رقمية تُمكّن المستخدم من متابعة الأسعار لحظيًا، واتخاذ قرارات الشراء أو البيع بناءً على معطيات واضحة.
ويشرح زرعي أن الشركة سعت إلى محاكاة تجربة شارع الصاغة بالكامل داخل الهاتف المحمول، بحيث يصبح بإمكان أي شخص امتلاك الذهب، والاحتفاظ به، أو استلامه فعليًا من الفروع، أو حتى توصيله إلى المنزل، دون أن يفقد السيطرة على سعره أو ملكيته.
ومن هنا، تشكّل نموذج Gold Era باعتباره محاولة لتحويل سوق الذهب من منظومة تقليدية مغلقة إلى تجربة رقمية مفتوحة، تواكب مفاهيم الشمول المالي، وتمنح مختلف فئات المجتمع فرصة الدخول إلى سوق الذهب بشروط عادلة وآليات حديثة.
كيف يُحدد سعر الذهب في مصر؟
يوضح زرعي أن تسعير الذهب محليًا يخضع لمنظومة معقدة تتداخل فيها ثلاثة عوامل رئيسية، العامل الأول يتمثل في السعر العالمي للأوقية، وهو عنصر خارج عن السيطرة المحلية، حيث ينعكس كل تحرك بمقدار عشرة دولارات صعودًا أو هبوطًا على سعر الجرام داخل السوق المصري.
أما العامل الثاني، فيرتبط بسعر صرف الدولار مقابل الجنيه، وهو عنصر بالغ التأثير، إذ يؤدي أي تغير طفيف في سعر الصرف إلى تحركات مباشرة في أسعار الذهب، ويأتي العامل الثالث متمثلًا في آليات العرض والطلب داخل السوق المحلي، والتي تتأثر بالمواسم، والحالة النفسية للمتعاملين، ومستويات الترقب أو الإقبال.
ويشير زرعي إلى أن ربط السعر المحلي مباشرة بسعر بورصة لندن دون النظر إلى هذه العوامل يُعد تبسيطًا مخلًا، لافتًا إلى أن أسواقًا كبرى مثل الصين تتعامل أحيانًا بعلاوات سعرية مرتفعة فوق السعر العالمي نتيجة قوة الطلب.
لماذا قفز الذهب عالميًا؟
على المستوى الدولي، يرى زرعي أن صعود الذهب لم يكن نتيجة مضاربات مؤقتة، بل حصيلة مخاوف متراكمة تتعلق بتجميد الأصول، والعقوبات الاقتصادية، واتجاه دول كبرى إلى تقليص اعتمادها على الدولار الأمريكي، كما لعبت مشتريات البنوك المركزية دورًا محوريًا، بعدما تجاوزت في بعض الفترات ألف طن خلال عام واحد.
في المقابل، يعاني المعروض العالمي من الذهب من جمود واضح، حيث ظل الإنتاج السنوي شبه ثابت لسنوات طويلة، في وقت يتزايد فيه الطلب بوتيرة أسرع، ما خلق فجوة هيكلية دفعت الأسعار إلى مستويات تاريخية.
إلى أين يتجه السعر؟
انعكست هذه المعطيات على توقعات المؤسسات المالية العالمية، حيث بدأت بنوك استثمار كبرى مثل جولدمان ساكس Goldman Sachs و جيه ي مورجان JP Morgan وبنك او أمريكاBank of America في رفع مستهدفاتها لسعر الذهب، مع حديث متزايد عن إمكانية وصول الأوقية إلى مستوى 5000 دولار خلال الفترة المقبلة.
ويؤكد زرعي أن الذهب حقق خلال عام واحد فقط مكاسب تقترب من 60%، وهو أداء استثنائي يعكس دوره كأداة تحوط فعالة في بيئة اقتصادية مضطربة.
الاستثمار يبدأ من الجميع
أحد أبرز التحولات التي أشار إليها زرعي يتمثل في كسر الحاجز النفسي والمالي أمام صغار المستثمرين، فبدلًا من اشتراط أوزان كبيرة، أصبح الاستثمار في الذهب ممكنًا بداية من ربع جرام فقط، ما أتاح لفئات واسعة الدخول إلى السوق دون أعباء مالية ضخمة.
ويشير إلى أن هذا التوجه لم يكن تسويقيًا بقدر ما كان فلسفة استثمارية قائمة على الشمول، لافتًا إلى أن سبيكة ربع الجرام حققت خلال سنوات قليلة عوائد تفوقت على كثير من الأدوات الادخارية التقليدية.
متى تشتري ومتى تبيع؟
ينتقد زرعي السلوك السائد لدى الأفراد، الذين غالبًا ما يبيعون عند الصعود ويشترون عند الهبوط، مؤكدًا أن الذهب لا يُدار بعقلية المضاربة السريعة، فالقاعدة الأساسية، بحسب تعبيره، هي الشراء عند التراجعات، والاحتفاظ طويل الأجل، خاصة في ظل التحولات الهيكلية التي يشهدها النظام المالي العالمي.
الذهب يعود إلى مركز النظام المالي
في ختام حديثه، يلفت زرعي إلى أن مراقبة سلوك الدول الكبرى، وعلى رأسها الصين، يقدّم مؤشرًا واضحًا على الاتجاه العام، مشيرًا إلى أن الذهب يستعيد تدريجيًا موقعه كمكوّن أساسي في توازنات الاقتصاد العالمي، وبينما تتغير أدوات الاستثمار وتتبدل العملات، يبقى الذهب، وفق هذا المنظور، أصلًا لا يفقد بريقه، بل يزداد أهمية كلما زادت حالة عدم اليقين.

















































































