شهد سوق الذهب العالمي حالة من الترقب والتحليل، خاصة مع الارتفاعات القياسية التي سجلها المعدن الأصفر مؤخرًا يطرح المستثمرون والمحللون سؤالًا تاريخيًا ملحًا..هل يمكن أن تتكرر كارثة عام 1980، حيث شهدت الأسعار ارتفاعًا جنونيًا تلاه انهيار حاد؟
الارتفاع الجنوني والانهيار الكبير في 1979-1980
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان النظام المالي العالمي يمر بمرحلة اضطراب غير مسبوقة، حيث فقد الدولار غطاءه الذهبي بعد انهيار نظام «بريتون وودز»، والتضخم خرج عن السيطرة، بينما كانت أسعار النفط تقفز بوتيرة صادمة إثر أزمات الطاقة المتتالية.
في هذا المناخ، تحوّل الذهب من مجرد أصل تحوطي إلى ملاذ جماعي، وخلال أقل من عشر سنوات، قفز سعر الأوقية من نحو 35 دولارًا إلى 850 دولارًا في يناير 1980، في موجة صعود عكست انهيار الثقة في العملات والسياسات النقدية آنذاك.
لم يكن الصعود مدفوعًا بالمضاربة فقط، بل بالخوف، الخوف من التضخم، ومن ضعف الدولار، ومن عالم يتغير بسرعة تفوق قدرة الأسواق على التكيّف.
كانت الولايات المتحدة تعاني من مستويات تضخم غير مسبوقة، حيث وصلت معدلاته إلى حوالي 11% سنويًا، هذا التآكل السريع للقوة الشرائية دفع المستثمرين للبحث عن ملاذ آمن يحفظ قيمة ثرواتهم، ولم يجدوا أفضل من الذهب، كما تزامنت هذه الأزمة الاقتصادية مع أزمة طاقة حادة نابعة من الاضطرابات في الشرق الأوسط، مما زاد من حالة عدم اليقين.
لم تقتصر الدوافع على الاقتصاد، بل امتدت إلى الجغرافيا السياسية، حيث كان الغزو السوفييتي لأفغانستان في ديسمبر 1979 بمثابة صدمة جيوسياسية كبرى، عززت حالة عدم اليقين العالمية وزادت من الإقبال على الذهب كأصل آمن في أوقات الحروب والأزمات.
أدت هذه العوامل إلى حالة من الذعر والمضاربة، حيث تهافت المستثمرون على شراء الذهب، مما خلق فقاعة سعرية غير مستدامة.
لماذا انهار الذهب في 1980؟
لم يدم هذا الارتفاع طويلاً، فبعد بلوغ الذروة، شهدت الأسعار انهيارًا مروعًا، وكان السبب الرئيسي وراء هذا الانهيار هو التدخل الحاسم من قبل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي آنذاك، بول فولكر.
فمع تولي بول فولكر رئاسة الاحتياطي الفيدرالي، تغيّرت قواعد اللعبة، ورفع الفائدة إلى مستويات قاربت 20%، بحلول ينيو 1981، وأطلق حملة غير مسبوقة لكبح التضخم، حتى لو كان الثمن ركودًا اقتصاديًا.
أدت هذه الخطوة إلى تعزيز قوة الدولار، وأصبحت حيازة الدولار والسندات ذات العائد المرتفع أكثر جاذبية بكثير من حيازة الذهب الذي لا يدر عائداً.
كما ارتفعت تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب بشكل كبير، مما دفع المستثمرين إلى بيعه والتحول إلى الأصول ذات العائد، ونتيجة لذلك، تراجعت أسعار الذهب بأكثر من 50% من ذروتها، ولم تستعد مستواها القياسي إلا بعد 32 عاماً .
اليوم… مشهد مختلف أم نسخة مكررة؟
اليوم، يبدو المشهد ظاهريًا مألوفًا، من حيث التوترات الجيوسياسية، والضغوط التضخمية، وسباق عالمي نحو التحوط، لكن الفروق الجوهرية أعمق مما تبدو عليه.
الذهب لم يعد أصلًا هامشيًا في دفاتر البنوك المركزية، بل أصبح ركيزة استراتيجية، دول كبرى تشتري الذهب بوتيرة قياسية، وتسعى لتقليص الاعتماد على الدولار، في عالم تتزايد فيه المخاطر المالية والديون السيادية.
كما أن قدرة البنوك المركزية على تكرار سيناريو فولكر باتت محدودة، فمستويات الدين الحالية تجعل من رفع الفائدة إلى مستويات صادمة خيارًا مكلفًا، قد يهدد استقرار الاقتصاد العالمي بأكمله.
توقعات أسعار الذهب لعام 2026
على النقيض من حالة الذعر التي سادت في 1980، فإن التوقعات الحالية لعام 2026 تشير إلى مسار صعودي، لكنه يوصف بأنه أكثر استدامة وأقل عرضة للانهيار الحاد، تتفق معظم المؤسسات المالية الكبرى على أن الذهب سيواصل مسيرته الصاعدة، مدعوماً بعوامل هيكلية جديدة.
تتوقع مؤسسات عملاقة مثل جي بي مورجان أن تتجاوز أسعار الذهب حاجز الـ 5,000 دولار للأوقية بحلول الربع الرابع من عام 2026، وتحديداً عند 5,055 دولارًا.
وفي السياق ذاته، رفعت جولدمان ساكس توقعاتها لتصل إلى 4,900 دولار بحلول ديسمبر 2026 ، بينما يرى مورجان ستانلي أن الأسعار ستصل إلى 4,800 دولار للأوقية، حتى دويتشه بنك رفع توقعاته إلى 4,450 دولارًا، هذه التوقعات المرتفعة تشير إلى إجماع في السوق على استمرار الاتجاه الصعودي.
تستند هذه التوقعات إلى دوافع مختلفة تمامًا عن تلك التي سادت في 1980، العامل الأبرز اليوم هو شراء البنوك المركزية، حيث تواصل البنوك المركزية العالمية، وخاصة في الصين والأسواق الناشئة، شراء كميات قياسية من الذهب لتنويع احتياطياتها بعيدًا عن الدولار الأمريكي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التوقعات تشير إلى أن الاحتياطي الفيدرالي سيتجه نحو التيسير النقدي وخفض أسعار الفائدة في المستقبل القريب، وهو ما يمثل نقيضًا تامًا لسياسة فولكر في 1980، حيث يقلل التيسير المتوقع من جاذبية الدولار ويزيد من جاذبية الذهب، مما يغذي الارتفاع الحالي
كما تساهم التوترات الجيوسياسية العالمية المستمرة في دعم الطلب على الذهب كملاذ آمن، لكنها لا تصل إلى مستوى “الحدث الكارثي” الذي شهده عام 1979.
هل ينهار الذهب في 2026 مثل 1980؟
يرى محللون أن الذهب قد يمر بفترات تصحيح طبيعية بعد موجات الصعود القوية، لكن الانهيار الحاد على غرار 1980 يتطلب شروطًا لا تبدو متوفرة حاليًا، من بينها تضخم مُسيطر عليه تمامًا، فائدة مرتفعة لفترة طويلة، وثقة كاملة في العملات الورقية.
وحتى إن تباطأ الطلب، فإن الذهب لا يتحرك اليوم كأصل مضاربي بحت، بل كأداة تحوط سيادية في عالم مضطرب.
بينما كان صعود الذهب في 1979-1980 مدفوعاً بالذعر والتضخم الجامح، وتم إخماده بـ التشديد النقدي غير المسبوق، فإن المسار المتوقع لعام 2026 مدعوم بعوامل هيكلية مثل التيسير النقدي المتوقع والطلب القوي والمستمر من البنوك المركزية. تشير التوقعات من المؤسسات المالية الكبرى إلى أن الذهب سيواصل تسجيل مستويات قياسية جديدة، مما يقلل بشكل كبير من احتمالية تكرار الانهيار المأساوي الذي شهده عام 1980.
الذهب في 1980 سقط حين اصطدم بجدار الفائدة المرتفعة والانضباط النقدي الصارم، أما اليوم، فهو يتحرك في عالم مثقل بالديون، تحكمه حالة عدم يقين مزمنة، وتبحث دوله عن أصول تحمي الثروة والسيادة النقدية معًا.