شهد سوق الذهب المصري تحولاً هيكلياً عميقاً، وصفه خبراء بأنه “إعادة تشكيل” للسوق، وذلك في أعقاب الأزمة العالمية التي اندلعت في مارس 2022 وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتي لم تكن مصر بمنأى عن تأثيراتها.
هذا التحول قاده الدكتور سامح الترجمان، رئيس البورصة المصرية الأسبق، الذي كان له دور محوري في طرح صناديق الاستثمار في الذهب، بهدف تحويل المعدن الأصفر إلى أداة مالية منظمة.
رؤية استثمارية تستجيب للتحولات العالمية
لم تكن فكرة طرح صناديق الذهب مجرد إضافة منتج جديد، بل كانت جزءاً من رؤية استراتيجية أوسع لتحويل شكل الاستثمار في الذهب بمصر.
أوضح الدكتور الترجمان في حوار خاص لـ ” عيار 24″، أن الدافع وراء هذا التوجه يرتكز على سببين رئيسيين: الأول هو الحاجة الملحة لإدخال أدوات مالية جديدة في سوق المال المصري، والثاني هو الاستجابة للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية.
وأشار الترجمان إلى أن التفكير في هذا المسار يعود إلى عامي 2012 و 2013، حيث كانت الأبحاث والدراسات تتوقع سيناريوهات لحروب اقتصادية بين القوى الكبرى، وارتفاعاً مخيفاً في المديونية العالمية.
هذه السيناريوهات تنبأت بضعف العملات الرئيسية، مما سيجعل الذهب هو الملاذ الآمن والبديل المعترف به عالمياً للحفاظ على رأس المال عبر التاريخ. وقد أثبتت التطورات الراهنة صحة هذه التوقعات، مما عزز قناعة “إيفولف” بضرورة العمل على فكرة تحويل الذهب إلى أداة مالية.
مقارنة بين السوق التقليدي والمنظومة الرسمية
أكد الترجمان أن سوق الذهب التقليدي في مصر، على الرغم من تاريخه الطويل الذي يعود إلى العصور الفرعونية، لم يتغير كثيراً لفترة طويلة.
هذا السوق، الذي يعتمد على تجارة عريقة، يقع معظمه خارج المنظومة الرسمية، حيث يغلب عليه التعامل النقدي (الكاش) ويفتقر إلى السجلات الواضحة، مما يجعله غير منظم بالمعايير المطبقة في أسواق المال العالمية.
في المقابل، تتميز أسواق المال التي تتعامل مع الذهب بقواعد صارمة واختلافات جوهرية تتركز في ثلاث نقاط رئيسية.
أولاً، فيما يتعلق بالالتزام والشفافية (Compliance)، فإن الأسواق المنظمة تفرض التزاماً صارماً بقواعد مكافحة غسيل الأموال وتتميز بوضوح وشفافية كاملة في المعاملات، على عكس السوق التقليدي الذي يوصف بأنه أقل تنظيماً ويفتقر للشفافية الكاملة.
ثانياً، تفرض الأسواق المنظمة المعايير القياسية (Standards)، حيث يوجد حد أدنى من المعايير لابد من توافره لضمان انضباط العيار وعدم الاختلاف عما هو موثق، بينما يعتمد السوق التقليدي على الثقة التاريخية وقد لا يطبق المعايير الدولية بحذافيرها.
ثالثاً، توفر الأسواق المنظمة السيولة (Liquidity) العالية، حيث تتحرك السيولة من خلال أدوات مالية، مما يوفر ضماناً وأماناً أكبر ويجعل التعامل مع الذهب مشابهاً للورقة المالية، في حين أن السوق التقليدي يعتمد على البيع والشراء المباشر وقد تكون سيولته محدودة. هذه المعايير الصارمة تهدف في مجملها إلى تحويل الذهب إلى ورقة مالية، مما يجعله أكثر أماناً وضماناً للمستثمرين.
رهان على وعي الشعب المصري وتأكيد الثقة
على الرغم من أن فكرة الاستثمار في الذهب عبر وثائق مالية كانت تواجه تخوفاً من بعض المؤسسات المالية في البداية، راهن الدكتور الترجمان على “وعي الشعب المصري”، مؤكداً أن المواطن المصري يقبل أي فكرة تحقق له مصلحة حقيقية.
وقد أثبتت التجربة نجاحها بشكل لافت، حيث تمكنت صناديق الذهب الأربعة المطروحة حالياً من جذب أكثر من 300 ألف عميل، وتجاوز حجمها الإجمالي 3 مليارات جنيه مصري في غضون عامين فقط. هذا النجاح فاق كل التوقعات الأولية.
ولتعزيز الثقة، أشار الترجمان إلى أن أحد الصناديق، الذي يتيح للمستثمر استلام سبيكته الذهبية، لم يشهد سوى طلبين للاسترداد الفعلي للذهب منذ إطلاقه قبل نحو ثلاث سنوات، وقد قام العميلان بإعادة الذهب بعد التأكد من وجوده، مما يؤكد ثقة المواطنين في المنظومة الجديدة، التي تخضع لتنظيم هيئة الرقابة المالية.
آفاق النمو ودور المؤسسات الغائب
على الرغم من الأرقام القياسية، لا يزال حجم الاستثمار في الصناديق (حوالي 3.4 مليار جنيه) صغيراً مقارنة بحجم سوق الذهب التقليدي، مما يشير إلى أن التجربة لا تزال في بدايتها وتحمل إمكانات نمو هائلة.
وفي سياق تحليل ارتفاع أسعار الذهب عالمياً، لفت الترجمان إلى أن اللاعب الرئيسي حالياً هو البنوك المركزية والمؤسسات الاستثمارية، التي بدأت تهتم بالذهب بشكل كبير، على عكس ما كان يحدث قبل عام 2011. هذا الطلب المؤسسي هو المحرك الرئيسي لارتفاع الأسعار عالمياً.
وفي المقابل، أكد الترجمان أن دور المؤسسات الاستثمارية في مصر في سوق الذهب يكاد يكون غائباً حتى الآن، مما يمثل فرصة كبيرة لنمو السوق، ومع زيادة الوعي ودخول أدوات مالية أخرى، يتوقع أن ينمو حجم السوق بشكل كبير، مما سيعود بالنفع على الاقتصاد الوطني من خلال تعميق التجربة وتنظيمها.















































































