إن الارتفاعات القياسية المرتقبة في أسعار الذهب، جنبًا إلى جنب مع حالة عدم اليقين الاقتصادي المتزايد، وتقلبات الأسواق، دفعت للتركيز على دور المعدن الثمين في الأسواق المالية العالمية، إذ قد يكون الذهب، أداة مهمة في مواجهة أزمة السيولة المحتملة.
تاريخيًا، كان الذهب مخزنًا للقيمة، وأداة لمواجة تقلبات الأسواق، وشكلًا من أشكال العملة ورمزًا للثروة، يلجأ إليه المستثمرين لحماية ثرواتهم خلال عدم اليقين الاقتصادي، ولكن هناك سبب آخر للاستثمار في الذهب يتجاهله الكثيرون هو “سيولته”.
يعد الذهب أحد أكثر الاستثمارات “سيولة”، حيث يمكن تحويله بسرعة وسهولة إلى نقود، وتشير السيولة إلى مدى سهولة وسرعة بيع أحد الأصول مقابل نقود بقيمته السوقية الحالية، على سبيل المثال، الأموال الموجودة في الحسابات المصرفية تعد أصلًا سائلًا، فيمكن سحبها في أي وقت، لكن العقارات تعد أصلًا غير سائل لأنها قد تستغرق وقتًا طويلاً لتحويلها إلى نقود.
ومع ذلك لا تعترف الأسواق المالية الدولية، بالذهب كأصل سائل، ولا تدرجه ضمن الأصول السائلة، مثل الأسهم والسندات والنقود الورقية.
ومن ثم يواصل مجلس الذهب العالمي ورابطة سوق السبائك في لندن، جهودهما في إعادة تصنيف الذهب، والاعتراف به كأصل سائل ضمن المشهد المالي الحديث، وبموجب اتفاقية بازل 3، وذلك قبيل مؤتمر المعادن الثمينة العالمي في أكتوبر المقبل.
في يوليو الماضي، عقد مجلس رابطة سوق لندن للسبائك، ومجلس الذهب العالمي اجتماعًا موسعًا مع رئيس وأعضاء بنك التسوية الدولية، لمناقشة مستقبل الذهب وإدراجه ضمن الأصول السائلة.
وبنك التسويات الدولية هي مؤسسة مالية دولية، مملوكة من البنوك المركزية ترعى التعاون النقدي والمالي الدولي، ويستهدف الاستقرار المالي العالمي، ومقره بازال في سويسرا.
إن إعادة تصنيف الذهب، باعتباره، أصلًا سائلًا، من شأنه أن يعزز استقرار الأسواق، وتحسين السيولة، وزيادة الثقة في النظام المالي، والاستقرار الاقتصادي.
أثبت الذهب هذا العام أنه منافس قوى للعملات الدولية، لاسيما بعد ارتفاع الأوقية لأعلى مستوى لها على الإطلاق في 20 أغسطس الجاري، لتسجل 2532 دولارًا، حيث ارتفع أسعار الذهب بأكثر من 22 % مقابل الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني، وارتفع بنحو 17٪ مقابل مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
كشفت أزمة كوفيد وكذلك أزمة البنوك الأمريكية العام الماضي، مدى أداء الذهب كأصل سائل، يعمل بشكل مشابه جدًا، للسندات والأسهم، حيث يقوم الذهب بوظيفة العملة، ومن ثم اندفعت البنوك المركزية لتعزيز احتياطاتها منه، مقارنة بأدوات أخرى كالدولار، بل على العكس اتجهت البنوك للتخلي الجزئي عن الدولار.
يلعب الذهب دورًا رئيسيًا كاستثمار استراتيجي طويل الأجل وكعنصر أساسي في تنويع المحفظة الاستثمارية، وهو في الحقيقة أصل عالي السيولة، ولا يحمل أي مخاطر ائتمانية، ويحفظ قيمة الأموال بمرور الوقت، ويمكن الاستثمار في الذهب بطرق مختلفة، إما عن طريق الحيازة المادية، من خلال المشغولات وسبائك الذهب والعملات، أو من خلال صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب، أو الاستثمار في أسهم شركات تعدين الذهب.
تعد التقلبات السعرية مقياسًا بالغ الأهمية في تقييم مخاطر الاستثمار، وأبرز المآخذ على الذهب هو التقلبات السعرية، ومع ذلك يتميز الذهب بالطلب، ومن ثم قابلية السيولة سواء وقت ارتفاع أو انخفاض الأسعار، فلذهب دائمًا مشترين، ويمكن بيعه وتحويل قمته إلى نقد في أي وقت، كما أن الذهب يتمتع ببنية تقلب مماثلة للأصول التقليدية الأخرى، كالأسهم والسندات والدولار، وهذا ما اكدته بعض الأوراق البحثية من خلال مقارنات بأداء الذهب والأسهم والسندات خلال العقود الأخيرة.
الندرة النسبية، هي أيضًا إحدى مميزات الحفاظ على استقرار أسعار الذهب، مقارنة بالأصول الأخرى مثل النقد، والتي يمكن للحكومات طباعة المزيد منها في أي وقت، وتعتمد بشكل كبير على قوى السوق، و التي يمكن أن تنخفض قيمتها بسرعة، أو كأسواق الأسهم التي توجد بشكل تجريدي في صورة رموز على الشاشة.
كشفت الأزمة المالية العالمية في 2008، أن غالبية البنوك التجارية كانت تعاني من نقص في أصول السيولة، وفي ضوء ذلك، أعلنت لجنة بازل للرقابة المصرفية ببنك التسوية الدولية في نهاية عام 2010 عن معياري”نسبة تغطية السيولة” و”نسبة التمويل المستقر الصافي” لضمان دعم البنوك بشكل كافٍ بـ “أصول سائلة عالية الجودة” في الفترات المالية المضطربة، لكنها تجاهلت الذهب، ولم تدرجه حتى الآن كأحد الأصول السائلة مثل الأسهم والسندات والنقود الورقية.
كان الذهب هو الأصل الاحتياطي الرئيسي في الأسواق المالية، وعمل على تثبيت أسعار صرف العملات، من عام 1944 إلى أغسطس عام 1971، حين أعلن رئيس الولايات المتحدة السابق، وقف بلاده العمل بمبداً تحويل الدولار إلى ذهب، ما يعني انهيار اتفاقية بريتون وودز، لكن الذهب عاد إلى مكانته كأصل استراتيجي بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وذلك بفضل قوته كملاذ آمن ومخزن للقيمة.
مؤخرًا، شهد سوق الذهب نشاطًا كبيرًا بسبب حجم ارتفاع الأرباح، وتجنب المخاطر الاستثنائية، وبالتالي، اجتذبت وظيفة سوق الذهب فيما يتعلق بسوق السلع اهتمامًا متزايدًا في دوائر الصناعة.