بينما تسعى الدول النامية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية من أجل تنشيط اقتصاداتها وتوفير فرص العمل، تعود قضية إعادة تشغيل منجم الذهب “كيبالـي” في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية لتثير جدلًا عالميًا واسعًا، ليس فقط من زاوية الجدوى الاقتصادية، بل أيضًا من منظور الاستدامة البيئية وعدالة توزيع الثروات.
خلفية تاريخية لمنجم كيبالي
تعود اكتشافات الذهب في المنطقة إلى عام 1903 على يد المستكشفين الأستراليين “هَنّام” و”أوبراين”، وفي عام 1926، أسست الحكومة البلجيكية “شركة مناجم كيلـو-موتو” (SOKIMO) لتشغيل المناجم، حيث شهدت خمسينيات القرن الماضي ذروة الإنتاج، غير أن النشاط تراجع بشدة بعد الاستقلال عام 1960 بسبب الاضطرابات السياسية، وتحول التعدين إلى نشاط حرفي وغير منظم خلال الثمانينيات والتسعينيات.
في عام 1998، اكتشف تحالف بين “باريك جولد” و”أنجلو جولد أشانتي” رواسب KCD، لكن المشروع توقف بسبب الحرب الأهلية.
في عام 2004، حصلت شركة “Moto Goldmines” على حصة 70% من الامتياز، بينما احتفظت شركة SOKIMO الحكومية بنسبة 30%، لاحقًا، استحوذ تحالف بين “راندجولد ريسورسيز” و”أنجلو جولد أشانتي” على شركة “Moto”، وفي 2019 استحوذت شركة “باريك جولد” على “راندجولد”، وأصبحت المشغل الرئيسي للمشروع.
وبحلول عام 2020، توزعت ملكية المنجم على النحو التالي:
-
باريك جولد: 45%
-
أنجلو جولد أشانتي: 45%
-
SOKIMO: 10%
البنية التحتية والإنتاج:
يجمع منجم كيبالي بين التعدين السطحي وتحت الأرض، ويضم مصنعًا لمعالجة الخام الكبريتي والأكسيدي بقدرة إنتاجية تصل إلى 7.2 مليون طن سنويًا، وتدعم الطاقة التشغيلية ثلاث محطات كهرومائية بقوة 44 ميغاواط لكل منها، بالإضافة إلى محطة حرارية احتياطية بقدرة 32 ميغاواط.
تم افتتاح المنجم رسميًا في سبتمبر 2013 بعد استثمارات بلغت 1.7 مليار دولار، وكان من المتوقع أن يستمر التشغيل لمدة 18 عامًا، في عام 2019، تجاوز الإنتاج التقديري ليسجل 814 ألف أوقية من الذهب، مقارنة بتقدير سنوي سابق بلغ 600 ألف أوقية.
الأوبئة الصحية:
شهدت المنطقة بين عامي 1998 و2000 تفشيًا مشتركًا لفيروس “ماربورج” و”رافن”، ما تسبب في 154 إصابة و128 حالة وفاة بين عمال المناجم غير النظاميين، خصوصًا في منطقتي “دوربا” و”واتسا”.
مكاسب اقتصادية قصيرة الأجل… في مقابل مخاطر بنيوية عميقة
رغم أن منجم “كيبالـي” يُعد نموذجًا تقنيًا متقدمًا في قطاع التعدين الإفريقي، حيث يُنتج أكثر من 7.2 مليون طن من الذهب الخام ويعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 80%، إلا أن إعادة تشغيله تُعيد إلى تكرار أسئلة ملحّة حول نمط استغلال الموارد في الدول النامية.
ففي الدول التي تفتقر إلى مؤسسات رقابية قوية وبُنى تشريعية متماسكة، غالبًا ما تُبرم اتفاقيات التعدين بشروط غير متكافئة، تُمكّن الشركات الأجنبية من السيطرة على العوائد، في حين تبقى المجتمعات المحلية رهينة لآثار سلبية طويلة الأجل تشمل تدهور النظم البيئية، وتلوث المياه، وتغيير أنماط الحياة التقليدية، بل وحتى التهجير القسري.
التعدين في الدول النامية: نموذج تنموي أم تبعية اقتصادية؟
لقد بات واضحًا أن الاعتماد المفرط على أنشطة التعدين كأداة لتحقيق التنمية الاقتصادية، يفتقر إلى الاستدامة على المدى الطويل، فالدول الغنية بالموارد مثل الكونغو الديمقراطية، تُعاني من ما يُعرف بـ”لعنة الموارد”، حيث تُؤدي الوفرة الطبيعية إلى إضعاف القطاعات الأخرى مثل الزراعة والصناعة، وتُفاقم التبعية للأسواق العالمية المتقلبة، مما يُعرض اقتصاداتها لصدمات عنيفة مع كل انخفاض في أسعار السلع الأساسية.
علاوة على ذلك، فإن المشكلات الهيكلية الناتجة عن هذه النماذج التنموية لا تقتصر على الاقتصاد فقط، بل تمتد إلى نُظُم الحوكمة، حيث تؤدي العائدات غير الخاضعة للشفافية إلى تغذية الفساد، وتُضعف من قدرة الدولة على توجيه الإنفاق نحو الصحة، والتعليم، والتنمية البشرية.
المعادلة البيئية: خطر قائم رغم المعايير التقنية
حتى وإن حمل منجم “كيبالـي” سمات نموذجية من حيث البنية التحتية والاستثمار المجتمعي، فإن المنظومة العالمية التي يُعاد من خلالها تفعيل مشاريع التعدين الكبرى لا تزال تُنتج نفس النتائج القديمة: نهب الموارد، تهميش السكان المحليين، وتدمير الطبيعة.
وقد حذر علماء بيئة ومؤسسات بحثية دولية من أن إعادة تشغيل المناجم في الدول النامية دون مراجعة شاملة للنموذج الاستثماري، يُهدد بتفاقم الأزمات البيئية، لا سيما في ظل هشاشة الأنظمة البيئية في مناطق التعدين، التي تحتاج آلاف السنين للتعافي.
الاستثمار المسؤول: ضرورة ملحة وليس ترفًا أخلاقيًا
أمام هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى تطوير أطر قانونية وتنظيمية تضمن الاستثمار المسؤول والمستدام في قطاع التعدين، بما يحقق توازنًا بين المكاسب الاقتصادية والحفاظ على البيئة وضمان حقوق المجتمعات المحلية.
فالمعادلة لم تعد مجرد سؤال عن جدوى الربح من الذهب، بل أصبحت قضية تتعلق بمستقبل التنمية في القارة الإفريقية. إن المطلوب ليس وقف الاستثمار في الموارد، بل إعادة هندسته بما يتلاءم مع التحديات المعاصرة، ويضع الإنسان والبيئة في صلب العملية الاقتصادية.