قال المحلل الاقتصادي محمد مهدي إن العالم يشهد واحدة من أكثر موجات الاندفاع نحو الذهب منذ عقود، مع اصطفاف المواطنين أمام متاجر السبائك والمجوهرات في اليابان وأستراليا، رغم الأسعار التاريخية التي تجاوزت 4,370 دولارًا للأوقية.
وأوضح أن الصور المتداولة من طوكيو وسيدني تُظهر طوابير طويلة أمام المتاجر قبل فتحها، في مشهد يعكس حجم القلق الشعبي من التضخم وتراجع الثقة في العملات الورقية.
أشار مهدي إلى أن شركة “تاناكا كيكينزوكو” – أكبر بائع للذهب في اليابان – أعلنت مؤقتًا نفاد مخزون السبائك الصغيرة نتيجة الإقبال الهائل من المواطنين، مؤكدًا أن انهيار الين الياباني لأدنى مستوى منذ عام 1986 جعل الذهب يبدو “أرخص” نسبيًا داخل اليابان، وهو ما دفع الأسر إلى تحويل مدخراتها من النقد إلى المعدن النفيس.
وأضاف: اليابانيون لم يعودوا يشترون الذهب للزينة أو الاستثمار طويل الأجل فقط، بل كوسيلة لحماية مدخراتهم من فقدان القيمة… إنها حالة خوف مالي جماعي.”
وفي أستراليا، أوضح مهدي أن متاجر Perth Mint وABC Bullion شهدت ازدحامًا غير مسبوق، مع طوابير امتدت خارج المتاجر في سيدني وملبورن.
وقال: الأستراليون يندفعون للشراء تحسّبًا لخفض أسعار الفائدة وتباطؤ الاقتصاد الصيني، الذي ينعكس مباشرة على صادرات أستراليا، فضلًا عن القلق من تراجع الدولار الأسترالي.”
وأكد أن المشهد يعيد إلى الأذهان الأزمة المالية العالمية في 2008، حين اندفع الناس للذهب بدافع القلق أكثر من الرغبة في الاستثمار.
وبيّن مهدي أن الاندفاع على الذهب لم يعد محصورًا في منطقتين، بل أصبح ظاهرة عالمية شاملة.
وأشار إلى أن الطلب العالمي على الذهب بلغ نحو 2,455 طنًا خلال النصف الأول من 2025، وفق بيانات مجلس الذهب العالمي (WGC)، وهو من أعلى المستويات خلال السنوات الأخيرة.
وأضاف أن الطلب الاستهلاكي – الذي يشمل المجوهرات والسبائك والعملات – شكّل حوالي 60% من إجمالي الطلب العالمي، مما يعكس عودة الثقة في المعدن الأصفر كملاذ آمن أمام التضخم وتذبذب الأسواق المالية.
وأوضح أن الأسعار ارتفعت بأكثر من 55% منذ بداية العام لتصل إلى 4,379 دولارًا للأونصة في أكتوبر، وهو أعلى مستوى في التاريخ الحديث.
أرجع مهدي ما سماه بـ”حمّى الذهب” إلى مزيج من العوامل الاقتصادية والنفسية، من بينها تراجع العملات المحلية في آسيا (الين، الروبية، اليوان) أمام الدولار، ومخاوف التضخم العالمي رغم تباطؤ نسبي في بعض الدول، والتوترات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة وإعادة فرض الرسوم الجمركية،و العامل النفسي (FOMO) أو الخوف من فوات الفرصة، حيث يدفع اندفاع الآخرين مزيدًا من الناس إلى الشراء.
وقال مهدي:الذهب لم يعد مجرد سلعة استثمارية، بل تحول إلى رمز نفسي للأمان والثقة في زمن تآكلت فيه قيمة النقود الورقية.”
بحسب مهدي، تتوزع القوة الشرائية في السوق بين ثلاثة أطراف رئيسية، تضم الأفراد والمستهلكون الصغار الذين يشكلون النسبة الأكبر من المبيعات، خاصة في آسيا، وصناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) التي سجلت تدفقات قياسية هذا العام، والبنوك المركزية التي اشترت نحو 166 طنًا من الذهب في الربع الثاني وحده ضمن استراتيجية التنويع بعيدًا عن الدولار الأمريكي.
أوضح مهدي أن دولًا أخرى تشهد الظاهرة نفسها، في الصين، ارتفع الطلب الاستهلاكي إلى 200 طن في الربع الثاني (+21%) بدعم من ضعف اليوان، وفي الهند، قفزت المبيعات خلال موسم ديوالي بنسبة 20% رغم الأسعار المرتفعة، وفي فيتنام وإندونيسيا، ارتفعت المبيعات 15–20% وسط قلق من التضخم والديون، وفي الشرق الأوسط وأوروبا، زاد الإقبال على السبائك بنسبة 10% مع ضعف اليورو والدولار.
توقّع مهدي أن يواصل الذهب صعوده إلى 4,500 دولار للأونصة إذا استمرت الضغوط على العملات الآسيوية وواصلت البنوك المركزية الشراء بوتيرة قوية.
لكنه أشار إلى أن تحسّن النمو الأمريكي أو تراجع التوترات التجارية قد يؤدي إلى تصحيح محدود فقط، مؤكدًا أن “الاتجاه العام لا يزال صعوديًا على المدى المتوسط”.
اختتم مهدي تصريحاته قائلًا:ما نراه اليوم ليس هوسًا عابرًا، بل تحوّلًا في البنية المالية العالمية. الناس فقدت ثقتها في العملات الورقية، والمستثمرون فقدوا يقينهم بالأسهم والسندات.”
وأضاف:الذهب لم يعد رفاهية أو زينة… بل أصبح وسيلة نجاة اقتصادية في عالم مضطرب. حين يصطف الناس في طوابير لشراء الذهب في طوكيو وسيدني، فذلك يعني أن المال الحقيقي لم يعد في البنوك… بل في اليد.”