شهدت أسواق المعادن الثمينة تحولًا لافتًا خلال الفترة الأخيرة، حيث برز معدن الفضة كلاعب رئيسي، متجاوزًا صورته التقليدية كـ “ظل للذهب”، هذا التحول، المدعوم بارتفاعات سعرية حادة وطلب صناعي متزايد، يطرح تساؤلات حول مستقبل الفضة كأداة استثمارية رئيسية، خاصة في الأسواق الناشئة مثل مصر.
حللت الدكتورة فداء منصور الجوهري، الباحثة الاقتصادية، المشهد الحالي للفضة، مؤكدة أن المعدن الأبيض يفرض نفسه بقوة وهدوء، مستحقاً لقب “المحارب الأبيض” الذي يتحرك بتركيز نحو هدفه.
صعود “المحارب الأبيض” وتغير المشهد الاقتصادي
تؤكد الدكتورة الجوهري أن الفضة، رغم كونها “عاشت طول عمرها في ظل الذهب”، إلا أنها تمتلك حركتها الخاصة التي تميزها، ففي الوقت الذي كان فيه الاهتمام العالمي منصبًا على تقلبات الذهب في عام 2020، كانت الفضة تشهد تحركات صامتة مدفوعة بزيادة طلب كبار مستثمري التجزئة في آسيا وأوروبا، إلى جانب الطلب المتزايد من صناع الطاقة الشمسية.
هذا التزايد في الطلب، بالتزامن مع شكاوى المناجم من عجز في الإمدادات نتيجة لتداعيات فيروس كورونا، أدى إلى خلق “ندرة نسبية” في الفضة، وهو ما غير المشهد تماماً.
الطلب الصناعي.. صمام أمان الفضة
على عكس الذهب، الذي يُعد ملاذاً آمناً بشكل أساسي، فإن الفضة تتميز بكونها مدعومة بطلب صناعي هائل، وتوضح الجوهري أن الفضة تدخل في صناعات كثيرة جدًا بفضل خصائصها الفريدة، فهي مقاومة للتآكل والأكسدة، ومعدن مرن وقابل للتشكيل، مما يجعلها عنصرًا حيويًا في الصناعات الحديثة والمستدامة.
وقالت “الفضة أساسًا عليها طلب صناعي متزايد لأنها بتدخل في صناعات كتيرة جدًا.. الطلب على الفضة بيوصل لـ 50% من إجمالي الطلب الكلي للفضة.”
وتشير التقديرات إلى أن الطلب الصناعي على الفضة سجل 680 مليون أوقية حتى الآن في عام 2025، وهو ما يمثل محركًا قويًا لأسعارها، وتعتبر صناعة الطاقة الشمسية أكبر محرك لاستخدام الفضة، مما يربط مستقبل المعدن الأبيض بالتحول العالمي نحو الطاقة النظيفة.
الفضة: تقلبات أعلى ومكاسب أكبر
تتسم الفضة بتقلبات سعرية أكبر من الذهب، وهو ما يراه المستثمرون فرصة لتحقيق مكاسب أعلى، وتشدد الجوهري على أن الفضة “مُقوَّمة بأقل من قيمتها”، مما يمنحها فرصة أكبر لتحقيق قفزات سعرية والوصول إلى مستويات أعلى بكثير من المتاحة حالياً.
تاريخ من القفزات السعرية:
وأوضحت أن أبرز فترات التقلب كانت في السبعينيات، وتحديدًا بين سبتمبر 1979 ويناير 1980، حيث قفز سعر الأوقية من 11 دولارًا إلى 50 دولارًا، مدفوعًا بمحاولة الأخوين هانت احتكار السوق، وتكررت هذه القفزة في عام 2011، حيث وصلت الفضة مرة أخرى إلى مستوى 50 دولاراً للأوقية.
أضافت، هذه التقلبات الحادة تثير قلق المستثمر العادي، الذي يتساءل: “إذا وصلت الفضة إلى 50 أو 100 دولار، ثم نزلت مرة أخرى، فكيف يمكن أن أثق بها؟”
أكدت الجوهري، إلى أن الطلب الصناعي، يمثل شبكة أمان تضمن أن الفضة “مسيرها هتطلع تاني” طالما أن الطلب الصناعي مستمر، كما يجب على المستثمر أن يتبنى فكرة الاستثمار طويل الأجل، وعدم متابعة السعر يومياً، بل الشراء على دفعات (متوسطات سعرية) لتقليل مخاطر التقلب.
السوق المحلي المصري: الفضة كبديل استثماري
مع الارتفاع الكبير في أسعار الذهب، أصبحت الفضة تمثل متنفسًا وشريحة استثمارية مناسبة لصغار المستثمرين، وقالت “مش كل الناس بالأسعار بتاعة الذهب اللي وصلت دلوقتي لأرقام كبيرة جدًا… الفضة هنا بقى ودي ميزة في الفضة إن هي… فرصة أكبر لصغار المستثمرين”.
وبدلاً من شراء جرام واحد من الذهب، يمكن للمواطن شراء سبيكة فضة (5 أو 10 جرامات) أو أوقية فضة (31 جراماً) بسعر معقول نسبياً (حوالي 1900 جنيه مصري للأوقية)، هذا التوجه أدى إلى ظهور شركات متخصصة في إنتاج سبائك الفضة في السوق المصري.
تحدي الوعي الاستثماري:
أشارت الجوهري إلى أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة رفعت من وعي الناس بضرورة الحفاظ على قيمة مدخراتهم، حتى لو كان ذلك “وعياً غصباً عنه”. ومع ذلك، لا تزال هناك مشكلة في ثقافة الاستثمار، حيث يغلب على المجتمع “ثقافة الاستهلاك” على حساب “ثقافة الادخار والاستثمار”.
وأكدت الجوهري، على ضرورة التربية الاقتصادية، خاصة للأجيال الجديدة، لتعليمهم كيفية الادخار والاستثمار حتى بالمبالغ الصغيرة، مشيرين إلى أن الفضة يمكن أن تكون وسيلة مناسبة لتعليم الشباب الاستثمار دون مخاطرة كبيرة.
العائق الأكبر: أزمة المشغولات الفضية
يواجه المستثمر المصري عائقًا كبيرًا يتعلق بكيفية تعامل السوق المحلي مع المشغولات الفضية، فبينما يُعتبر الذهب (سواء سبائك أو مشغولات) مخزناً للقيمة، فإن الفضة في شكل مشغولات تُعامل كمنتج استهلاكي بحت.
توضح الجوهري أن المستثمر يخسر جزءًا كبيرًا جدًا من ثمن المشغولات الفضية عند البيع، وهو ما لا يحدث بنفس الحدة في الذهب (حيث تكون الخسارة في المصنعية والدمغة فقط). وتضرب مثالاً حقيقياً: “أعرف مثال حقيقي حصل، حد شاريه مدالية بـ 5000 جنيه، لما قرر أن هو يفكر أن هو يبيعها، رجع للتاجر اللي هو مشتريها منه بيتكلم معاه أن هو ممكن يشتريها بـ 700 جنيه.”
هذا الفارق الهائل يمثل “جاب” (فجوة) كبيرة ليس لها تفسير منطقي، ويؤدي إلى فقدان الثقة في الفضة كاستثمار، خاصة وأن التاجر قد يرفض شراء المشغولات أصلاً.
أكدت الجوهري، أن الفضة، كأداة استثمارية، هي “مخزن للقيمة” مثل الذهب، ومع توقعات المؤسسات الدولية بارتفاع سعرها مستقبلاً، فإن الفترة الحالية تُعد “فرصة” لمن يريد الاستثمار، خاصة وأن السعر الحالي ليس مرتفعًا جدًا.
ولفتت، إلى أن الارتفاع المستمر في أسعار الذهب سيجبر شريحة كبيرة من المصريين على التوجه نحو الفضة، كما أن قوة الطلب الصناعي ستزيد من استقرار مركز الفضة في السوق. ورغم التحديات المتعلقة بالوعي الاستثماري وأزمة المشغولات، فإن كل المؤشرات تدل على أن الفضة ستفرض نفسها بقوة أكبر في المستقبل القريب.














































































