يُعد شراء الذهب قرارًا اقتصاديًا هامًا للادخار، والتحوط ضد التضخم، أو حتى للاستثمار طويل الأجل، ومع ذلك يواجه هذا السوق الحيوي تحديًا كبيرًا يتمثل في ظاهرة غش الذهب، والتي لا تهدد فقط مدخرات الأفراد، بل تُلقي بظلالها على ثقة الأسواق والمعاملات التجارية الشفافة.
بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فإن الغش في المعادن الثمينة يُعد جزءًا من الاقتصاد غير الرسمي، الذي يمثل نحو 15–30% من الناتج المحلي لبعض الأسواق الناشئة،[1] ما يشير إلى حجم المشكلة، فكيف يتسلل الذهب المغشوش إلى الأسواق، وكيف يمكن للمستهلك حماية استثماراته؟
الآليات الاقتصادية لغش الذهب: تقويض القيمة وزعزعة الثقة
تتنوع أساليب غش الذهب، وتتمحور جميعها حول تقليل التكلفة الإنتاجية مع الحفاظ على مظهر الذهب الأصلي، ما يحقق أرباحًا غير مشروعة على حساب المستهلك والاقتصاد ككل، من أبرز هذه الأساليب:
- خلط الذهب بمعادن أقل قيمة: وهي الطريقة الأكثر شيوعًا، حيث تُضاف معادن منخفضة التكلفة كالنحاس، والفضة، أو حتى المعادن الثقيلة كالرصاص والإيريديوم في سبيكة الذهب، لزيادة الوزن الظاهري للقطعة دون زيادة قيمتها الحقيقية، اقتصاديًا هذا يعني تحويل جزء من القيمة الاقتصادية التي دفعها المشتري إلى معادن لا تحمل نفس قيمة الذهب.
- التلاعب بالعيار المعلن: يتمثل هذا في تصنيع بعض الورش للذهب بعيار أقل من المعلن عنه، هذا الغش يؤثر مباشرة على القيمة الحقيقية للذهب المباع، حيث يدفع المستهلك سعر ذهب نقي بينما يحصل على قطعة ذات نسبة ذهب أقل، وهو ما يقلل من قيمة الأصل الاقتصادي الذي يمتلكه.
- طلاء المعادن بالذهب: هذه الطريقة هي الأكثر إشكالية من منظور اقتصادي، حيث يتم تجميل معادن عادية أو سبائك غير ذهبية بطبقة رقيقة جدًا من الذهب، هنا يكاد يكون الاستثمار الفعلي في الذهب معدومًا، وبالتالي خسارة اقتصادية كاملة للمشتري فور انكشاف الغش.
- التلاعب في الأوزان وشهادات الضمان: استخدام موازين غير دقيقة أو إصدار فواتير تتضمن أوزانًا غير صحيحة، يمثل سرقة مباشرة لقيمة المال المدفوع، ويقوض آليات السوق العادلة التي تعتمد على الدقة والشفافية.
- بيع الذهب القديم على أنه جديد: بعض المحلات تعيد تلميع الذهب المستعمل وتقوم بإعادة بيعه باعتباره جديد بسعر أعلى.
هذه الممارسات لا تضر بالمشتري فقط، بل تؤثر على سمعة سوق الذهب المحلي، وتخلق بيئة غير تنافسية للملتزمين بالمعايير، وتؤدي إلى تراجع الثقة في المعاملات التجارية، ما قد يدفع المستثمرين للبحث عن أسواق أكثر أمانًا وشفافية.
الذهب المغشوش وأثره على الاقتصاد الكلي:
لا تقتصر آثار الذهب المغشوش على الأفراد فقط، بل تمتد لتلقى بظلالها على الاقتصاد الكلي وثقة المستثمرين في الأسواق المالية، حيث تُظهر أمثلة دولية واقعية كيف يمكن لحالات الغش أن تزعزع الاستقرار الاقتصادي:
- الصين “Kingold Jewelry” (2020): كشفت السلطات الصينية عن استخدام شركة كينغولد للمجوهرات نحو 83 طنًا من النحاس المطلي بالذهب كضمان لقروض تزيد قيمتها عن 2,8 مليار دولار، ما أدى إلى انهيار الثقة في ضمانات الذهب، وفرض إجراءات بنكية صارمة لفحص الذهب، هذه الواقعة تسببت في اضطراب بأسواق الذهب وخسائر فادحة للمستثمرين.[2]
- الهند وتراجع ثقة المستهلك المحلي: واجهت الأسواق الهندية (وهي من أكبر مستهلكي الذهب عالميًا)، موجة من الشك في الذهب المحلي بسبب تكرار حالات الغش في العيار والدمغة، ما دفع المستهلكين للتوجه نحو شراء الذهب المغلف من شركات عالمية موثوقة أو منصات إلكترونية، وهو ما انعكس سلبًا على ورش الصاغة الصغيرة، وأضعف التنوع في السوق المحلي.[3]
- التأثير على السياسة النقدية: في بعض الدول النامية، قد تؤدي كثافة تداول الذهب المغشوش إلى تعطيل قدرة البنوك المركزية على تقدير الحجم الحقيقي من الذهب المخزن لدى المواطنين أو البنوك، ما يشوش على مؤشرات الثروة الوطنية ويؤثر على قرارات اقتصادية حساسة مثل السياسة النقدية وسعر الفائدة.
أدوات الكشف والوقاية: حماية الاستثمار الشخصي
لحماية مدخراتك واستثماراتك من مخاطر الذهب المغشوش، يجب على المستهلك أن يكون مسلحًا بالمعرفة واليقظة، يمكن تقسيم وسائل الكشف إلى مستويين:
1- وسائل الكشف الأولية (للمستهلك): تعتمد هذه الوسائل على مبادئ فيزيائية وكيميائية بسيطة للتحقق الأولي:
- اختبار الكثافة والمغناطيسية: الذهب الخالص يتميز بكثافة عالية كما أنه غير مغناطيسي، ومن ثم فإن أي انجذاب للمغناطيس أو طفو للقطعة في الماء يشير إلى وجود معادن أخرى، ما يقلل من قيمتها الاقتصادية كذهب نقي، ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن بعض المعادن قد تكون قريبة من كثافة الذهب، وبالتالي هذا الاختبار وحده غير كافٍ للكشف التام.[4]
- اختبار الحمض والخل: الذهب النقي لا يتغير لونه ولا يتفاعل مع الأحماض المنزلية كالخل، وأي تغير في لون الذهب (للأخضر أو الأسود أو الأزرق) عند اختلاطه بالخل، يشير إلى وجود شوائب، ما يدل على نقص في القيمة وأن الذهب مغشوش.
- اختبار لون الجلد: الذهب الحقيقي لا يتفاعل مع الجلد أو العرق، وبالتالي عند احتكاك قطعة من الذهب باليد، لو تحول لون البشرة للأخضر أو الأزرق أو الأسود، تعنى أن هذا الذهب مزيف أو مطلي.
- اختبار السيراميك: يُعد اختبار الخدش على السيراميك غير المطلي طريقة بسيطة للكشف عن نقاء الذهب، عند فرك قطعة الذهب برفق على سطح سيراميك خشن، يشير الخط الذهبي إلى الذهب الأصلي، بينما يدل الخط الأسود على وجود معادن مغشوشة أو شوائب.
- ملاحظة الدمغة (الختم): الدمغة الرسمية هي شهادة جودة من الجهات الحكومية (مثل مصلحة دمغ المصوغات والموازين)، التحقق من وضوح الدمغة وتطابقها مع العيار المعلن هو ضمان أولي لنقاء الذهب، ووجودها يمثل وثيقة ثقة اقتصادية.
- المقارنة البصرية والصوتية: الذهب الأصلي يتميز بلمعان ورنين خاص، وبالنقر على قطعة الذهب الأصلية بشيء معدني آخر، تصدر صوت “رخيم” أو رنين مميز وطويل، بينما الذهب المزيف يصدر صوت قصير واحد، الخبرة البصرية والصوتية مع الذهب يمكن أن تكون مؤشرًا، وإن كانت ليست كافية وحدها.
2- وسائل الكشف المتقدمة (للخبراء): عند الشك في القطع الذهبية وجودتها، لا بد من اللجوء للخبراء، حيث لديهم طرق احترافية لاكتشاف القطع المغشوشة ومنها:
- اختبار حمض النيتريك: ويستخدم الصائغ هذا الاختبار لتحديد العيار بدقة بناءً على تفاعل الذهب مع تركيزات مختلفة من الحمض، يتم فرك الذهب على حجر أسود لترك علامة، ثم توضع نقطة من حمض النيتريك فوق العلامة، فإذا تفاعل الحمض أو تغير اللون فهذا يعني أن هذا الذهب مغشوش، هذه الطريقة توفر تأكيدًا موثوقًا للقيمة المعدنية.
- الفحص المخبري: وهي طريقة مكلفة إلى حدٍ ما، حيث يتم تحليل الذهب في معامل متخصصة تستخدم تقنيات متطورة لتحديد التركيب الكيميائي للذهب بدقة، ومدى نقائه، ما يمثل أعلى مستوى من التأكيد على جودة الاستثمار.
- الفحص البصري الدقيق: لدى الصاغة خبرة كافية في تمييز الذهب الأصلي من لمعانه وشكله وتفاصيل التصنيع.
استراتيجيات تجنب المخاطر:
لتجنب الوقوع في فخ الذهب المغشوش، يجب تبني استراتيجيات شراء ذكية:
- الشراء من مصادر موثوقة وذات سمعة: اختر دائمًا محلات الصاغة المعروفة التي لها تاريخ طويل من النزاهة والشفافية، تجنب الشراء من الأماكن غير الموثوقة، السمعة هنا رأس مال اقتصادي يجب الحفاظ عليه.
- طلب فاتورة تفصيلية ومختومة: الفاتورة وثيقة اقتصادية رسمية، يجب أن تحتوي على جميع تفاصيل الصفقة: الوزن، العيار، السعر، وقيمة المصنعية والضريبة، ووصف القطعة، بالإضافة إلى التحقق من الدمغة، هذه الفاتورة هي ضمان حقك الاقتصادي في حال اكتشاف أي غش.
- الحذر من العروض غير الواقعية: إذا كان السعر أقل بكثير من سعر السوق المتداول، قد يكون مؤشر للغش أو على الأقل مؤشر لوجود مشكلة ما، الاقتصاد السليم لا يقوم على الصفقات الوهمية.
- الاستشارة المتخصصة: لا تتردد في استشارة صائغ أو خبير موثوق عند الشك في أي قطعة لتقييمها، هذه الاستشارة هي استثمار في الحماية الاقتصادية.
في الختام، يظل الذهب استثمارًا ذا قيمة، لكن فهم آليات غشه وأساليب الكشف عنه، واتخاذ قرارات شراء واعية، هي خطوات أساسية لحماية المدخرات وتعزيز ثقة السوق، فالاستثمار في الذهب مثل أي استثمار آخر، يتطلب الوعي واليقظة، واتخاذ القرارات الاقتصادية المستنيرة.
[1] Giovannini, Enrico. )2002(. Measuring the Non-Observed Economy, Paris: OECD. Retrieved from: https://www.oecd.org/content/dam/oecd/en/publications/reports/2002/05/measuring-the-non-observed-economy-a-handbook_g1ghge7e/9789264175358-en.pdf
[2] Sito, Peggy. (2020). Kingold Jewelry secures US$2.8 billion in loans with gilded copper bars, in latest fraud that embarrasses China, irks US. South China MorningPost. Retrieved from: https://www.scmp.com/business/companies/article/3091185/kingold-jewelry-secures-usus-28-billion-loans-gold-plated-copper?module=perpetual_scroll_0&pgtype=article
[3] Chhapia, Hemali. (2009). Gold adulteration rampant in India, THE ECONOMIC TIMES. . Retrieved from: https://economictimes.indiatimes.com/gold-adulteration-rampant-in-india/articleshow/4050500.cms?from=mdr
[4] – ESI. (2021). حيل جديدة للذهب المزيف؟ إضافة الروثينيوم والإيريديوم والأوزميوم والتنغستن إلى الذهب بشكل ضار. تم الاسترجاع من:
https://ar.esi-xrf.com/news/new-tricks-of-fake-gold-maliciously-add-ruth-46558307.html