اليوم، يرى كثير من المراقبين في العلاقة المتوترة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول صدىً واضحًا لأحداث السبعينيات بين نيكسون وبيرنز.
ترامب، الذي لم يُخفِ انتقاداته العلنية لسياسة الفائدة الحالية، يضغط من أجل تيسير نقدي أسرع لدعم النمو الاقتصادي وتخفيف أثر الرسوم الجمركية والتوترات الجيوسياسية، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، في المقابل، يتمسك باول باستقلالية الفيدرالي ويوازن بين دعم الاقتصاد وكبح التضخم، وسط انقسام في الأسواق بين من يرى ضرورة خفض الفائدة الآن ومن يحذر من أن التسرع قد يعيد سيناريو التضخم الجامح الذي شهده الاقتصاد الأمريكي قبل نصف قرن.
في أوائل السبعينيات، شهدت الولايات المتحدة واحدة من أكثر فترات السياسة النقدية إثارة للجدل في تاريخها، حين دخل الرئيس ريتشارد نيكسون في مواجهة غير مباشرة مع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آرثر بيرنز، في صراع جمع بين الحسابات السياسية والضغوط الاقتصادية، وانتهى بخفض أسعار الفائدة في توقيت خاطئ، ما ساهم في إشعال موجة تضخمية خرجت عن السيطرة.
خلفية اقتصادية مضطربة
كان الاقتصاد الأمريكي في نهاية الستينيات يعاني من ضغوط مزدوجة: الإنفاق الحكومي المرتفع بسبب حرب فيتنام، وتوسع برامج الرعاية الاجتماعية في عهد الرئيس ليندون جونسون، هذه السياسات خلقت ضغوطًا تضخمية مبكرة، مع ارتفاع العجز في الموازنة وزيادة المعروض النقدي.
في عام 1970، تولى آرثر بيرنز رئاسة الاحتياطي الفيدرالي بدعم من نيكسون، الذي رآه حليفًا اقتصاديًا يمكن الاعتماد عليه، لكن العلاقة بينهما سرعان ما تحولت إلى ساحة ضغط سياسي، خصوصًا مع اقتراب انتخابات الرئاسة عام 1972، والتي كان نيكسون يسعى للفوز بها بفارق مريح.
الضغط لخفض الفائدة قبل الانتخابات
أراد نيكسون أن يدخل موسم الانتخابات باقتصاد قوي ونمو مرتفع، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار الأسعار، وكشفت تسجيلات البيت الأبيض لاحقًا أن الرئيس مارس ضغوطًا مباشرة على بيرنز لخفض أسعار الفائدة، بهدف تحفيز سوق العمل ودفع النمو قبل نوفمبر 1972.
استجاب بيرنز، وخفّض الفائدة على الرغم من مؤشرات التضخم الصاعدة، ما أدى إلى زيادة الطلب الكلي وارتفاع الأسعار بوتيرة متسارعة.
وفي أغسطس 1971، اتخذ نيكسون خطوة تاريخية بإنهاء ارتباط الدولار بالذهب، منهيًا فعليًا نظام “بريتون وودز”، وهو ما أتاح للحكومة مرونة أكبر في طباعة النقود وتمويل العجز، لكنه أزال في الوقت ذاته قيدًا مهمًا على السياسة النقدية.
انفجار التضخم وفقدان السيطرة
بين عامي 1972 و1974، ارتفع معدل التضخم السنوي من حوالي 3% إلى أكثر من 12%، مدفوعًا بمزيج من السياسة النقدية المتساهلة، وصدمة أسعار النفط في 1973 بعد حظر “أوبك” للنفط.
وجد بيرنز نفسه في مواجهة تضخم جامح، لكنه كان مترددًا في رفع الفائدة بقوة، بسبب استمرار الضغوط السياسية والخشية من إبطاء الاقتصاد بشكل حاد.
دروس من الماضي… وتحذيرات للحاضر
يُنظر إلى صراع نيكسون – بيرنز اليوم كأحد الأمثلة الكلاسيكية على خطورة تدخل السلطة التنفيذية في استقلالية البنك المركزي، فقد أثبتت التجربة أن التضحية باستقرار الأسعار من أجل مكاسب اقتصادية قصيرة المدى تؤدي في النهاية إلى تكاليف أعلى بكثير على المدى الطويل.
ويستشهد محللون بهذه الحقبة عند الحديث عن الضغوط السياسية التي قد يواجهها الاحتياطي الفيدرالي في أوقات الأزمات، محذرين من تكرار أخطاء الماضي.
فكما يقول المؤرخون الاقتصاديون: “التضخم يبدأ بقرارات سياسية، لكنه لا يتوقف إلا بتكاليف مؤلمة”.