كتب: وليد فاروق
قفزت أسعار الذهب إلى مستوى غير مسبوق في تاريخها، بعدما تجاوزت حاجز 4000 دولار للأوقية (31.1 جرامًا)، وسط اندفاع عالمي من المستثمرين نحو المعدن الأصفر كملاذ آمن، في ظل عام شهد اضطرابات سياسية واقتصادية واسعة.
فقد تخطت عقود الذهب الآجلة هذا الحد يوم الثلاثاء، ولحقت بها الأسعار الفورية بعد ظهر الأربعاء في الأسواق الآسيوية، لتؤكد دخول المعدن النفيس مرحلة جديدة من الصعود المستمر.
ورغم أن الذهب لطالما اعتُبر «الأصل الآمن» في أوقات الأزمات، يرى المحللون أن ارتفاعه المتسارع مؤخرًا يشير إلى تحول في طبيعة الطلب عليه، إذ لم يعد مجرد أداة تحوط ضد التضخم، بل أصبح الذهب أصلًا لكل الظروف.
نصف عام من المكاسب التاريخية
منذ بداية عام 2025، ارتفع سعر الذهب بأكثر من 54%، وهي زيادة لم يشهدها منذ عقود، ويعود جزء كبير من هذا الصعود إلى السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض مطلع العام الجاري.
فقد قفزت الأسعار بقوة في أبريل بعد إعلان ترامب حربًا تجارية على عدد من الاقتصادات الكبرى، ثم واصلت الارتفاع في أغسطس إثر هجومه على استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو ما زاد حالة عدم اليقين المالي ودفع المستثمرين إلى الاحتماء بالذهب.
غير أن هذه العوامل لم تكن وحدها وراء الارتفاع، إذ ساهمت الانتخابات القيادية في اليابان ونتائجها غير المتوقعة، إلى جانب الإغلاق الحكومي الأمريكي والأزمة السياسية الفرنسية عقب استقالة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، في تأجيج موجة الصعود.
فوز تاكايتشي يربك الأسواق
يرى كايل رودا، كبير محللي الأسواق في شركة Capital.com الأسترالية، أن الفوز المفاجئ لسناي تاكايتشي برئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي في اليابان كان من المحركات الرئيسية لموجة الارتفاع الأخيرة.
تاكايتشي – التي تستعد لتولي رئاسة الوزراء في رابع أكبر اقتصاد عالمي – خاضت حملتها على أساس زيادة الإنفاق بالعجز، وخفض الضرائب، ومنح نقدية للأسر لتحفيز النمو، ما أثار قلق الأسواق وهبوط الين الياباني إلى أدنى مستوى له في 13 شهرًا، وفقًا لرويترز.
ومع تراجع الين – أحد الملاذات الآمنة التقليدية – توجه المستثمرون إلى الذهب، الذي أصبح البديل المفضل في مواجهة تراجع العملات.
يقول رودا:«الارتفاع الحالي هو جزء مما يمكن وصفه بتجارة التحفيز المفرط (Run it Hot Trade)، حيث تراهن الأسواق على استمرار الإنفاق المالي التوسعي الذي يدعم الأصول الحقيقية على حساب العملات».
قفزة تتجاوز كل المقارنات
يصف المحللون أداء الذهب هذا العام بأنه الأقوى في تاريخه الحديث، فعلى مدار أربع سنوات بين 2020 و2024، تراوح السعر بين 1600 و2100 دولار للأوقية دون تغيّر كبير، قبل أن يرتفع بنسبة 30% في عام 2024، لكن الارتفاع في الأشهر التسعة الأولى من 2025 تجاوز تلك الزيادات مجتمعة، مع مسار صعودي حاد أعاد تشكيل السوق بالكامل.
التاريخ يعيد نفسه… ولكن بشروط جديدة
ليست هذه المرة الأولى التي يشهد فيها الذهب طفرة بهذا الحجم، ففي السبعينيات، ارتفع السعر من 35 دولارًا للأوقية عام 1971 إلى 850 دولارًا عام 1980، بعدما أنهى الرئيس ريتشارد نيكسون ربط الدولار بالذهب.
تزامن ذلك مع أزمة النفط عام 1973، والغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، وأزمة الرهائن في إيران، وهي أحداث غذّت المخاوف التضخمية وعززت الطلب على المعدن، لكن المختلف اليوم، بحسب الخبراء، أن الذهب يتحرك هذه المرة جنبًا إلى جنب مع الأسهم الأمريكية، وليس عكسها كما كان في الماضي.
الذهب والأسهم يسيران في الاتجاه نفسه
فبينما قفز الذهب إلى مستوى قياسي، أغلقت مؤشرات ستاندرد آند بورز 500 وناسداك المركب عند مستويات تاريخية أيضًا، رغم القلق من الإغلاق الحكومي الأمريكي.
ويفسّر تيم ووترر، كبير محللي الأسواق في KCM Trade الأسترالية، هذا التوازي بأنه تحوّل في النظرة إلى الذهب من أصل دفاعي إلى أصل شامل.
ويقول ووترر: «أصبح الذهب أصلًا لكل الظروف، قادرًا على الارتفاع في فترات الإقبال على المخاطر كما في فترات العزوف عنها، مع احتفاظه بدوره كتحوط ضد الاضطرابات الجيوسياسية».
ويضيف: «لم يعد يُنظر إلى الذهب كأصل يُستخدم فقط في الأزمات، بل بات يتمتع بدور استثماري أوسع يعكس ديناميكيات السوق الحديثة».
ترامب حاضر… لكن ليس وحده
يؤكد كل من ووترر ورودا أن ترامب ما زال مؤثرًا في اتجاه الذهب، لكن تأثيره ليس العامل الوحيد.
فوفقًا لرودا، أصبح الذهب اليوم «تجارة خماسية الأبعاد»، حيث يوازن المستثمرون بين السياسات المالية التوسعية وارتفاع الديون في الاقتصادات الكبرى، والمخاطر الجيوسياسية المستمرة، والسياسات التجارية الأمريكية، وتهديدات استقلال الفيدرالي، وتوقعات خفض أسعار الفائدة الأمريكية في المدى المتوسط.
ويقول رودا: «يمكن القول إن ترامب أثّر بشدة في تحركات الذهب، لكن لا يمكن اختزال الأمر في رفض لسياساته وحدها، فهناك عوامل متشابكة ومتعددة تقود هذا الصعود».
الذهب في 2025: مرآة الثقة لا التضخم
يشير المحللون إلى أن الذهب لم يعد مجرد مقياس للتضخم أو لقيمة الدولار، بل أصبح انعكاسًا مباشرًا لـ مستوى الثقة في النظام المالي والسياسي العالمي.
ومع تصاعد التوترات الدولية، وتوسع العجز المالي، وتراجع الثقة في العملات الورقية، يبدو أن المعدن الأصفر يرسخ موقعه كأصل يوحّد بين التحوط والمكسب، ليصبح «العملة الصامتة» للعصر الحديث.
الذهب اليوم لا يقيس قيمة الدولار فحسب، بل يقيس تآكل الثقة في من يديرون النظام المالي العالمي.