تصاعدت خلال الفترة الأخيرة موجة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي حول حديث النبي ﷺ: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، مِثْلًا بمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ»، حيث تبنّى كثير من غير المتخصصين رأيًا قاطعًا بتحريم بيع الذهب بالذهب إذا لم يتحقق التساوي والتقابض الفوري، مستندين إلى مدرسة الأخذ بظاهر النص دون النظر إلى علله وسياقه التاريخي أو الواقع الاقتصادي المعاصر.
هذه المدرسة، التي تمثل اتجاهًا فقهيًا يميل إلى الجمود على ظاهر الأحاديث دون إعمال الاجتهاد، ترى أن النصوص تُؤخذ كما هي دون تأويل أو تكييف مع الواقع المتغير، معتبرة أن أي بيع ذهب بذهب مع فرق أو تأجيل يدخل في باب الربا المحرم.
في المقابل، حسمت دار الإفتاء المصرية الجدل مؤكدة أن الذهب، سواء في صورة سبائك أو مشغولات، لم يعد يُعامل كعملة نقدية كما كان الحال في الماضي، بل أصبح سلعة تجارية تُشترى وتُباع وفقًا لقواعد السوق، ومن ثم فإن أحكام التعامل معه تختلف عن الذهب النقدي، وبالتالي، يجوز بيعه بالتقسيط أو استبدال القديم بالجديد مع دفع الفرق دون اشتراط القبض الفوري للنقد.
وأوضحت الدار أن الحديث الشريف ورد في زمنٍ كان فيه الذهب والفضة يمثلان العملة النقدية للتبادل التجاري، أما اليوم فقد تغيّر مناط الحكم، إذ أصبح الذهب موردًا استثماريًا وسلعة صناعية ذات قيمة فنية، مما يجعل تطبيق نفس الأحكام القديمة دون تكييف مع الواقع أمرًا غير منسجم مع التطورات الاقتصادية المعاصرة.
وقالت دار الإفتاء في فتوى رسمية ( 811) لفضيلة الدكتور على جمعة، إن النهي النبوي عن بيع الذهب بالذهب نسيئة أو متفاضلًا كان مرتبطًا بعِلّة محددة هي النقدية، أي كون الذهب والفضة وسيطًا للتبادل، لكن هذه العلة انتفت حاليًا، مشيرة إلى أن الحكم الشرعي “يدور مع علّته وجودًا وعدمًا”.
وأكدت الفتوى أنه لا مانع شرعًا من مبادلة الذهب القديم أو الكسر بالذهب الجديد، مع الاقتصار على دفع الفارق في السعر، دون الحاجة إلى بيع القديم نقدًا أولًا ثم شراء الجديد، مشددة على ضرورة وضوح الاتفاق وتحديد السعر بدقة، وخلو العقد من أي غموض أو استغلال، وأن تتم المعاملة بشفافية وفواتير موثقة.
وأضافت دار الإفتاء فى الفتوى (6723 ) لفضيلة الدكتور على جمعة، أن بيع الذهب المشغول أو السبائك بالتقسيط أو بالمبادلة (قديم بجديد) جائز شرعًا، بشرط وضوح الثمن والمواصفات وانتفاء الاستغلال، كما يسمح بدخول البنوك كوسيط.
كما أكدت الفتوى 5018 لفضيلة الدكتور على جمعة، أنه لا مانع شرعًا من بيع الذهب والفضة عبر الإنترنت، وجاء نص الفتوى” وذلك لأنَّ الحلولَ والتقابُضَ المشروطَيْنِ في بيْع الذهب والفضَّة لا يجْريان في الذهب المصوغ، أي: الذي دخلته الصناعة، وذلك لأنَّ الصياغة أخرجتهما عن كونهما أثمانًا، أي: وسيطًا للتبادل، فانتفت عنهما بذلك علَّةُ النقدية التي توجب فيهما شروط الحلول والتقابُض والتماثل، ويترتَّب عليها تحريمُ التفاضُل وتحريم البيع الآجل، فصار الذهبُ والفضةُ المصوغانِ بذلك سلعةً من السلع التي يجري فيها اعتبارُ قيمة الصَّنعة -وهي هنا “الصياغة”- إذ من المعلوم أَنَّ الحكم يدورُ مع علته وجودًا وعدمًا.
الإسلام دين لا يهدف إلى التضييق على الناس أو تعطيل مصالحهم، بل يراعي تغيّر الزمان والمكان، والتيسير المبني على فهم العلّة هو الأقرب إلى روح الشريعة.
هذا التوضيح يأتي ردًّا على الأصوات التي تبنّت مدرسة ظاهر النص دون اعتبار للمقاصد الشرعية أو التحولات الاقتصادية، فالفهم الحرفي للنصوص قد يُعطّل حركة السوق ويُربك المتعاملين، بينما الفقه المقاصدي يوازن بين النصوص والمصالح، ويُقدّم أحكامًا تراعي الواقع وتحمي الناس من الربا الحقيقي.
ويُتوقّع أن يُسهم هذا التوضيح في تعزيز استقرار السوق، ومنح التجار والمستهلكين إطارًا شرعيًا واضحًا للتعامل، خاصة في ظل توسع أنظمة البيع الإلكتروني، والتقسيط، والملكية الجزئية للذهب، ومن ثم فإن وضوح الضوابط يقلل من النزاعات، ويمنع فوضى الفتاوى غير المتخصصة التي تُربك السوق.
وبذلك، حسمت دار الإفتاء الجدل مؤكدّة أن الذهب اليوم سلعة لا نقد، ويجوز بيعه بالتقسيط أو بالمبادلة وفق ضوابط شرعية واضحة، ومن ثم يجب على الناس الرجوع للفتاوى الرسمية وعدم الاعتماد على آراء فردية غير متخصصة قد تُضلّل الناس بحجة “ظاهر النص”.