في تصعيد غير مسبوق للنزاع بين الحكومة العسكرية في مالي وشركة “باريك جولد” الكندية العملاقة، صادرت السلطات أكثر من 117 مليون دولار من الذهب الخام من منجم “لولو-جونكوتو”، أحد أكبر مناجم الذهب في العالم، بعد أيام فقط من توقيع قائد المجلس العسكري، العقيد أسيمي جويتا، قانونًا يمنحه الحق في البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى.
وذكرت الشركة أن عملية المصادرة جرت فجأة، حيث هبطت مروحيات حكومية في الموقع دون سابق إنذار، وقامت بنقل حوالي 35 ألف أوقية من الذهب، أي ما يزيد قليلاً عن طن واحد، ويُقدّر سعر الطن من الذهب بنحو 106.4 ملايين دولار، بناءً على سعر الأوقية الذي بلغ يوم الجمعة حوالي 3349 دولارًا.
وقالت “باريك جولد” يوم الجمعة إن الذهب قد تم أخذه على الأرجح بغرض بيعه من قِبل المدير المؤقت الذي عيّنته الحكومة للإشراف على تشغيل المنجم.
وأضافت، أن التفاصيل لا تزال غير واضحة، وأن الوضع ما زال يتطور، مشيرة إلى أنها أنشأت قسمًا خاصًا على موقعها الإلكتروني لتحديثات الأزمة.
ويُعدّ هذا التطور أحدث فصول الصراع المتصاعد بين الشركة والحكومة العسكرية التي تُدير البلاد منذ انقلاب عام 2021، وهو الثاني بقيادة غويتا خلال أقل من عام.
بيع استثنائي وتمويل حكومي
في وقتٍ لاحق، أكدت الحكومة الانتقالية أنها وافقت على بيع استثنائي للذهب المصادَر – وتحديدًا طن واحد – بقيمة تبلغ نحو 106 ملايين دولار، ستُستخدم عائداته لتسديد رواتب الموظفين الحكوميين وسداد ديون معلّقة للمورّدين، واعتُبرت هذه الخطوة بمثابة ترجمة ميدانية لسعي النظام العسكري لتعزيز سيطرته على الثروات الطبيعية، وعلى رأسها الذهب.
وتأتي هذه التحركات على خلفية قانون التعدين الجديد الذي أصدرته مالي عام 2023، والذي ألغى الإعفاءات الضريبية الممنوحة للمستثمرين الأجانب ورفع حصة الدولة في مشاريع التعدين إلى 30%، كما اتهمت الحكومة شركات أجنبية، من بينها “باريك”، بالتهرب الضريبي وبخفض تقارير الإنتاج عمداً.
وكانت السلطات قد علّقت صادرات “باريك” منذ نوفمبر 2024 بعد رفضها دفع غرامات حكومية، وسبق أن صادرت ثلاث أطنان من الذهب في يناير الماضي، وهو ما دفع الشركة إلى اللجوء إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) التابع للبنك الدولي.
مدير غامض وخلاف قانوني متصاعد
تأتي هذه الخطوة بعد حكم قضائي صدر في يونيو الماضي، قضى بوضع منجم “لولو-جونكوتو” تحت إدارة مسؤول حكومي مؤقت لمدة ستة أشهر، ورغم بدء تنفيذ القرار، تقول “باريك” إنها لم تُبلّغ رسميًا بهوية هذا المدير، لكنها علمت أن سامبا توريه، الموظف السابق في الحكومة والمشارك في تدقيق مثير للجدل حول قطاع التعدين، يقدّم المشورة للسلطات بشأن هذا الملف.
وكانت السلطات قد استبقت هذا الإجراء في يناير الماضي بمصادرة ثلاث أطنان من الذهب وتعليق جميع تراخيص التصدير الخاصة بالمنجم، وردًا على ذلك، لجأت “باريك جولد” إلى التحكيم الدولي أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)، التابع للبنك الدولي، وهي عملية لا تزال جارية.
وقال الرئيس التنفيذي للشركة، مارك بريستو، يوم الجمعة:”أود أن أُعيد التأكيد على التزام باريك تجاه مالي، رغم ما نواجهه من تحديات استثنائية وغير مسبوقة”.
وأضاف أن اللجوء إلى ICSID “يوفر اليقين القانوني والإشراف الدولي اللازمين للتوصل إلى حل نهائي لهذا النزاع.”
ذهب يُصادر وسلطة لا تنتهي
تزامن الاستيلاء على الذهب مع صدور قانون جديد يمنح جويتا تفويضًا مفتوحًا بالبقاء في السلطة “حتى تهدأ البلاد”، بحسب ما نقلته قناة “فرانس 24”.
وتعيش مالي منذ أكثر من عقد حالة من التوتر الأمني المستمر نتيجة تصاعد الهجمات المسلحة التي تنفذها جماعات متشددة، وامتدّ العنف ليشمل بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين. إلا أن الحكم العسكري لم ينجح حتى الآن في الحد من هذه التهديدات.
تراجع الإنتاج واهتزاز الثقة
تُعدّ “باريك جولد” من أكبر مشغّلي المناجم في مالي، وتسهم بأكثر من 38% من إجمالي إنتاج البلاد من الذهب، وبلغ إنتاجها عام 2024 نحو 19.4 طن من الذهب، غير أن النزاع القائم أدى إلى تراجع الإنتاج الوطني بنسبة 23% في 2024 ليصل إلى 51 طنًا فقط، مقارنة بـ66.5 طن في عام 2023، وفقًا للبيانات الرسمية.
يؤكد هذا النزاع المتفاقم أن العلاقة بين النظام العسكري في مالي وشركة التعدين الدولية تدخل مرحلة حرجة، خاصة في بيئة تتسم بانعدام الشفافية القانونية والاضطرابات السياسية، ويمثل التصعيد الأخير إنذارًا خطيرًا للمستثمرين الأجانب في إفريقيا، حيث أصبحت الثروات المعدنية ساحة لصراعات السيادة والشرعية القانونية، بينما تبقى التنمية الوطنية في مهب الريح.