تناول الدكتور إبراهيم نوار، الخبير الاقتصادي، في مقال له اليوم “الأحد” في صحيفة القدس العربي، علاقة سوق الذهب بالتطورات الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية الجارية في العالم حاليًا، وتوقعات اتجاه الأسعار في الفترة المقبلة.
وقال نوار، خلال الأيام الثلاثين الأخيرة حقق سعر الذهب زيادة بنسبة تقرب من 10 %وهو أعلى معدل يحققه في الأشهر الستة الأخيرة (الربع الأخير من عام 2023 والربع الأول من العام الحالي) حيث بلغت نسبة الزيادة 25.5 %، وعلى الرغم من ظهور أنباء تعرقل قوة ارتفاع الأسعار، مثل عدم تخفيض أسعار الفائدة على الدولار بواسطة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الشهر الماضي، واستمرار قوة التضخم، فإن تردد المستثمرين في الإقبال على الذهب كان محدودًا وفي أيام قليلة، لم يلبث المعدن النفيس بعدها أن عاود مسيرته الصاعدة، ليحلق عاليًا محققًا أرقامًا قياسية من أسبوع لآخر، حيث تخطى حاجز 2000 دولار للأوقية في الربع الأخير من العام الماضي، ثم تخطي حاجز 2300 دولار في الشهر الماضي، وها هو يقترب حاليًا من 2400 دولار للأوقية، ومن المرجح أن يتجاوز 2500 دولار بنهاية الربع الثاني من العام، إلا في حال حدوث حركة تصحيح حادة في الأسعار قبل الاجتماع المقبل للجنة السوق المفتوحة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
أسعار الذهب تضاعفت أكثر من 4 مرات خلال السنوات العشرين الأخيرة
قال، نوار، إن جمهور كبير من المستثمرين وصناديق الاستثمار يعتقد أن الطريق مفتوح أمام المعدن النفيس لاختراق حاجز 2500 دولار للأوقية، وربما يصل إلى 3000 دولار مع نهاية العام الحالي، وكان وراء ذلك قوة دفع ثلاثة محركات رئيسية هي البنوك المركزية، والصراعات الجيوسياسية، وتوقعات اتجاه أسعار الفائدة للانخفاض، هذه القفزة في الأسعار لم تكن رادعًا للمستثمرين تبعدهم عن الاستثمار، أو التخلص مما في حوزتهم وتفضيل جني الأرباح السريعة من ارتفاع الأسعار على الاستمرار في السوق، على العكس من ذلك فإن الربع الأول من العام الحالي شهد استمرار الزيادة في الطلب، الأمر الذي أدى لارتفاع الأسعار في شهر مارس فقط بما يقرب من 10 %.
وأوضح أن هذه النسبة المرتفعة جدًا من العائد على الاستثمار في الذهب أغرت كثيرًا من المستثمرين إلى زيادة نسبة الذهب في محافظهم على حساب الأسهم التي تعاني هي الأخرى أيضًا من القلق بشأن اتجاه أسعار الفائدة الأمريكية، هذا الإغراء يحمل في طياته خطورة على استقرار أسعار الذهب لأن جزءًا من الطلب في السوق أصبحت تحركه دوافع المضاربة لتحقيق أرباح سريعة ثم الخروج من السوق بسرعة.
أضاف، لكن تأثير المضاربة على الذهب خلال الأشهر الماضية كان محدودًا إلى حد كبير، قياسًا إلى تأثير الاستثمار الطويل الأجل، الأمر الذي ساعد على استمرار تحليق أسعار الذهب في الأعالي، وتقدر صناديق استثمار الذهب أن العائد التراكمي خلال السنوات الخمس الأخير بلغ حوالي 83 % بمتوسط يبلغ 8.3 % سنويا. لفت، إلى أن الذهب حقق خلال السنوات العشرين الأخيرة زيادة بلغت 463 % بمعدل 23 % تقريبًا في المتوسط كل عام، ويبين جدول أعدته مؤسسة «ستاتيستا» الأوروبية للإحصاء قارنت فيه العائد على الأصول الاستثمارية المختلفة منذ عام 1971 حتى العام الحالي أن الذهب جاء في المكانة الثالثة من حيث متوسط العائد السنوي مقارنة بالاستثمار في سوق الأسهم الأمريكية (المركز الأول بعائد 10.7 % سنويًا) والاستثمار في أسواق المواد الخام والسلع الأولية (المركز الثاني بعائد 8 % تقريبًا) والأسواق المالية للدول النامية المتجهة للتصنيع السريع (المركز الرابع بعائد 6.4 %) ثم سوق السندات الأمريكية التي جاءت في المركز الخامس بعائد 5.9 %.
خطورة المضاربة وضرورة التحلي بالمسؤولية في قرار الاستثمار
ويعتقد بعض المحللين أن السنوات الخمس المقبلة على الأقل ستشهد زيادات متعاظمة على الاستثمار في الذهب لأسباب اقتصادية مثل زيادة الطلب بواسطة البنوك المركزية، وجيوسياسية مثل القلق وعدم اليقين بشأن مصير الصراع على قيادة النظام الدولي بين الولايات المتحدة والصين، وأسباب تقنية مثل اعتبارات التحوط ضد تقلبات الأسعار بشكل عام سواء أسعار الوقود والمواد الأولية أو أسعار أدوات الاستثمار المالي. لهذه الأسباب وغيرها، فإنه يتعين على المستثمر الرشيد أن يتخذ قراره بالاستثمار في الذهب على أساس اعتبارات متعددة ومتشابكة، وليس بالجري مع القطيع في السباق على الذهب، سواء بالبيع أو الشراء، صحيح أن الذهب يمثل مخزنا قويا ومضمونا للمحافظة على قيمة النقود من التآكل بسبب التضخم، لكن رفع أسعار الفائدة بواسطة البنوك المركزية يزيد من جاذبية الاستثمار في أدوات تمويل الدين العام الحكومية، بما يحد من جاذبية الذهب كوعاء للاستثمار. في هذا السياق فإن صناديق الاستثمار تقدم نصائح بالغة الأهمية لعملائها. ويجب على المستثمر الرشيد أن يدرس بعناية نصائح مديري الاستثمار، لأن القرار قراره، ولأنه هو الذي يتحمل الخسارة، لكن مديري الاستثمار يحصلون عادة على عمولتهم مقدما سواء في حالة المكسب أو الخسارة.
محركات العرض في سوق الذهب
قال نوار، إنه في الأسواق الخالية من التشوهات، خصوصا تلك التي تتعرض لتدخل الدولة بطريقة إدارية غبية، أو التي تخضع لسيطرة الاحتكارات الكبيرة، فإن أسعار السلع والعائد على أدوات التمويل يتحدد بفعل قوى العرض والطلب، وعادة ما تتوازن السوق عند نقطة الالتقاء بين العرض الطلب، لكن وضع التوازن في أي سوق يكون قابلا للتغير بمفعول محركات كل منهما، ولا تخرج سوق الذهب عن هذه القاعدة الاقتصادية، ويتحدد العرض في سوق الذهب بكمية الإنتاج السنوي من مناجم الذهب في العالم، إضافة إلى الفائض المتداول في السوق، والمخزون من إنتاج سنوات سابقة، وتلعب تكنولوجيا إنتاج الذهب وتكلفة الإنتاج دورًا مهما في تحديد كمية الذهب الجديد المعروض للبيع في السوق، وتشير متابعة التطور التكنولوجي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج بشكل عام خصوصًا مع استخدام تكنولوجيا أكثر تعقيدًا لاستخراج الذهب من مناجم قديمة أو حديثة، ويتحكم عنصر «الندرة» في العرض إلى حد كبير، وبسبب ندرة الذهب فإن مرونة العرض في القدرة على الاستجابة للطلب بنفس الكمية هي مرونة محدودة جدًا، أولا نظرا لانخفاض معدل دخول مناجم جديدة إلى حيز الإنتاج، وثانيا لطول الفترة اللازمة من مرحلة التنقيب عن الذهب واستخراجه إلى مرحلة إعداده في صورته النهائية على شكل سبائك مدموغة وجاهزة للبيع في السوق، وعلى الرغم من أن تجارة الذهب يمكن أن تكون في صورة عقود ورقية، فإن تلك العقود يجب أن تكون مغطاة بكميات عينية من الذهب قابلة للتسليم عند اللزوم، ومن ثم فإن صناديق الاستثمار في الذهب التي تعتمد أساسا على العقود وليس على التبادل العيني ليس لها مطلق الحرية في التعاقد الآجل إلا بمقدار الكميات المتاحة.
أوضح أن كمية الذهب التي تم اكتشافها حتى الآن، المسجلة رسميًا والصالحة للاستغلال التجاري في كل أنحاء العالم، حسب تقدير هيئة المساحة الجيولوجية الامريكية، تبلغ 244 ألف طن متري، ويبلغ الاحتياطي غير المستغل من هذه الكمية حوالي 57 ألف طن فقط أي حوالي 23 %فقط، وتأتي النسبة العظمي من الإنتاج والاحتياطي من ثلاث دول فقط هي الصين وأستراليا وجنوب أفريقيا ثم الولايات المتحدة في المركز الرابع عالميا.
وأربعة أخماس كمية الذهب المعروض في العالم حاليًا تم استخراجها من المناجم خلال الفترة منذ عام 1910 حتى الآن، بينما أكثر من نصف الذهب تم إنتاجه خلال الفترة منذ عام 1967 حتى الآن، وذلك على أساس عمليات المسح الجيولوجي التي تعلنها هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية، ويقدر مجلس الذهب العالمي أن نمو الإنتاج العالمي يتباطأ في الوقت الحالي، ما لم يتم تحقيق اكتشافات كبيرة أو ابتكار تكنولوجيا جديدة للكشف والتنقيب، وتتراوح كمية الإنتاج بين 2500 إلى 3000 طن سنويًا، منها 170 طنًا من مناجم جنوب أفريقيا وذلك طبقًا لإحصائيات مجلس الذهب العالمي، ومن ثم فإن حجم سوق الذهب العالمي في الوقت الحاضر يصل إلى 198 ألف طن، يضاف إليها سنويًا ما يتراوح بين 2500 إلى 3000 طن من الإنتاج الجديد، ويقوم مجلس الذهب العالمي بدور تنظيمي مهم في الإنتاج بوضع قواعد ومعايير لسياسة الإنتاج «المسؤولة» لضمان وجود أكبر قدر ممكن من التوازن في السوق، وتوفير المرونة الكافية لجانب العرض.
محركات الطلب في سوق الذهب
تتمثل المحركات الرئيسية لفهم تحركات أسعار الذهب في الندرة والتضخم وأسعار الفائدة والعائد على الأصول الاستثمارية المنافسة للذهب مثل الأسهم والسندات، كما تشمل تلك المحركات مدى الاستقرار الاستراتيجي في العالم، إضافة إلى الثقافة والذوق وتفضيل الذهب لصنع المجوهرات، ويعتبر الذهب مخزنًا رئيسيًا للقيمة سواء بالنسبة للأفراد أو المؤسسات، ومصدرًا عظيما للسيولة لسهولة بيعه في أي وقت، إضافة إلى أن الطلب عليه يعكس ميولا اجتماعية وثقافية لها جذور عميقة، سواء في طقوس احتفالات الزواج، أو في التظاهر بالثروة والفخامة، وتعكس تطورات الأسعار في الأشهر الأخيرة، أسبابًا مهمة وقفت وراء زيادة الطلب على الذهب، منها التحوط ضد التضخم وانهيار قيمة العملة، وقد شهدنا ذلك بصورة واضحة في مصر بهدف الوقاية من التضخم، والرغبة في المحافظة على قيمة المدخرات من التآكل، كما لاحظنا أيضا أن ارتفاع الدين العام للحكومة الفيدرالية الأمريكية إلى 34.6 تريليون دولار أدى إلى زيادة الإقبال على الذهب، للوقاية من الآثار السلبية المحتملة للتضخم على قيمة الدولار، كما استمد الطلب على الذهب قوة كبيرة من عوامل جيوسياسية مثل الحرب في غزة وامتداد آثارها السلبية إلى الملاحة في البحر الأحمر، واحتمال انجرار إيران إلى ساحة الصراع في الشرق الاوسط.
لكن أحد العوامل المؤسسية متوسطة الأجل التي تغذي قوة الطلب في الذهب في الوقت الحالي تتمثل في سعي دول «عالم الجنوب» إلى بناء قاعدة احتياطي قوي من الذهب بدلا من الدولار، بعد أن تعرضت روسيا لتجميد أرصدتها الدولارية في إطار العقوبات المفروضة عليها، دول تجمع «بريكس» على سبيل المثال تسعى إلى زيادة قوة عملاتها المحلية بما يعزز قدرتها على استخدام هذه العملات في تسوية المعاملات التجارية والمالية فيما بينها في القريب العاجل، حتى وإن تم ذلك بشكل متدرج. يضاف إلى ذلك أن التوجه العالمي إلى إصدار عملات رقمية يستلزم زيادة قاعدة الاحتياطي النقدي لها، ورفع نسبة الغطاء الذهبي للتحوط ضد تقلبات أسعار العملات. ولذلك فإن طلب البنوك المركزية على الذهب يعتبر في السنوات الأخيرة محركا رئيسيا من محركات الأسعار في السوق. وفي حال استمرار ذلك لعدة سنوات، فإن التغير في أسعار الذهب سيكون داخل حيز محدود، خصوصا مع انخفاض مرونة العرض.
سيناريوهات التعافي الاقتصادي
وأضاف، “نظرًا لأننا نعيش حاليًا عام الانتخابات الأمريكية، فإن كثيرًا من المتغيرات الاقتصادية وتوقعات النمو في السنوات المقبلة ترتبط إلى حد كبير بنتائج هذه الانتخابات، ونظرًا لأن الانتخابات تتصف بحالة من عدم اليقين تعكسها استطلاعات الرأي العام، فإن من المرجح أن تعاني سوق الذهب من انعكاسات كل ذلك، ومن المتغيرات المهمة التي يجب أن نلاحظها في هذا الصدد تطورات التضخم وسياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وسوف تقرر كل هذه العوامل ما إذا كان الاقتصاد العالمي يستطيع أن يخرج من حالة الركود إلى عملية نمو مستقر بسهولة ويسر أم لا، ولا تشير تقارير صندوق النقد الدولي ولا مؤسسات التقييم المالي أو بيوت الاستشارات الاقتصادية إلى ترجيح سيناريو واحد محدد على غيره خلال الفترة من الآن وحتى نهاية العام. ولذلك فإن تغليب عدم اليقين على التوقعات يمكن أن يؤدي إلى حالة من الغموض بشأن تحركات أسعار الذهب.
ومع أن الذهب كان هو الأفضل أداءً في أسواق السلع والمواد الأولية في الآونة الأخيرة، فإن تحليل بنك جي بي مورجان لأوضاع السوق يشكك في قدرة الذهب على الصعود الى مستويات أعلى، قائلاً إن ارتفاعه الأخير يجعله عرضة للتصحيح، وتتضمن قوى التصحيح في مستويات الأسعار الحالية زيادة قوة وجاذبية سوق الطاقة، خصوصا بعد أن زاد الإقبال على شراء عقود النفط في أسواق المعاملات الآجلة، الأمر الذي رفع سعر خام برنت فوق مستوى 90 دولارا للبرميل، وقال خبراء جي بي مورجان أن هناك فرصة كبيرة لصعود أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل وربما تجاوزها.
ومع ذلك فإن خبراء بنك «ساكسو» الأوروبي للاستثمار يرجحون استمرار ارتفاع أسعار الذهب والمواد الأولية في الأجل القصير، بدفع من تخفيض أسعار الفائدة الفيدرالية فعلا في شهر يونيو المقبل، ما قد يؤدي إلى ضعف الدولار والعوائد على السندات، وفي هذا الحال يتوقع البنك أن يصل الذهب إلى نحو 2500 دولار، لكن القيود التي يضعها البنك على هذا السيناريو تتمثل في حدوث تراجع غير متوقع في التوترات الجيوسياسية، وتوقف البنوك المركزية وصناديق التحوط مؤقتا عن فورة شراء الذهب، هذا السيناريو قد ينطوي على إعادة ما يقرب من 300 طن من الذهب، تراكمت من خلال سوق العقود الآجلة الشهر الماضي إلى سوق البضاعة الحاضرة، ما يغذي اتجاه تصحيح الأسعار الذي كان قد أشار إليه تقرير بنك جى بي مورجان.