في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وتصاعد الشكوك بشأن استمرارية هيمنة الدولار الأمريكي كعملة احتياط رئيسية، باتت الأنظار تتجه مجددًا نحو الذهب، المعدن الذي صمد عبر التاريخ كملاذ آمن ووسيلة لحفظ القيمة، فهل نحن بالفعل على أعتاب نظام مالي عالمي جديد يتخذ من الذهب مرتكزًا رئيسيًا؟
شهدت السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من مشتريات الذهب من قبل البنوك المركزية حول العالم، وعلى رأسها الصين وروسيا وتركيا والهند، وبحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، بلغت مشتريات البنوك المركزية من الذهب في عام 2023 نحو 1045 طنًا، لتسجل بذلك عامًا ثالثًا على التوالي تتجاوز فيه المشتريات مستوى 1000 طن، أما في عام 2022، فقد وصلت المشتريات إلى حوالي 1136 طنًا، في ما يُعدّ أكبر حجم شراء سنوي للذهب من قبل البنوك المركزية منذ عام 1950.
هذا السلوك لا يمكن اعتباره مجرد تنويع في المحافظ الاستثمارية، بل هو تحول استراتيجي في السياسات النقدية للدول الكبرى، يهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي، خصوصًا في ظل استخدامه كسلاح جيوسياسي في العقوبات الاقتصادية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لعب الدولار الأمريكي دور العمود الفقري للنظام المالي العالمي، لكن في العقدين الأخيرين، بدأت الشكوك تتزايد بشأن استدامة هذه الهيمنة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب محورية، من بينها التوسع غير المسبوق في طباعة النقود من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والديون السيادية الضخمة التي تجاوزت 34 تريليون دولار في الولايات المتحدة وحدها، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على دول عديدة، والتي أثارت مخاوف من إمكانية تجميد الأصول الأجنبية بأي لحظة، بجانب التقلبات الحادة في أسعار الفائدة وتأثيرها على الاستثمارات العالمية.
هذه العوامل مجتمعة دفعت العديد من الدول إلى البحث عن بدائل أكثر أمانًا، وكان الذهب هو الخيار الأبرز.
في عام 1944، تم إنشاء نظام “بريتون وودز” الذي ربط العملات بالدولار الأمريكي، بينما تم ربط الدولار بالذهب بسعر ثابت 35 دولارًا للأوقية، إلا أن هذا النظام انهار عام 1971 عندما قرر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب.
اليوم، تتزايد المطالب بضرورة إعادة تشكيل النظام المالي العالمي بما يتماشى مع الواقع الاقتصادي الجديد، إذ تدعو دول كبرى إلى إنشاء عملات رقمية سيادية مدعومة بالذهب، وربط التبادلات التجارية بسلع حقيقية كـ الذهب والنفط، وتعزيز دور الأصول الملموسة في الاحتياطيات الدولية.
ويبدو أن دول مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تسير بخطى متسارعة نحو تأسيس نظام مالي موازٍ، يعتمد بشكل جزئي أو كلي على الذهب في تسوية المعاملات بين أعضائها.
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، بدأت بعض الدول الكبرى تسوية صفقاتها التجارية خارج النظام المالي التقليدي، باستخدام عملاتها المحلية أو عبر آليات تعتمد على الذهب كضمان، مثال على ذلك، الصين وروسيا تستخدمان اليوان والروبل، مع دعم ضمني من الذهب، ودول خليجية تدرس تسعير بعض صادراتها النفطية بعملات غير الدولار.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى الذهب كمخزن للقيمة فقط، بل كمحور محتمل لتسويات مالية بديلة، مما يعزز مكانته كأداة استراتيجية في الصراع الاقتصادي العالمي.
مع تطور تقنيات البلوك تشين، بدأت تظهر مبادرات لإنشاء عملات رقمية مدعومة بالذهب، مثل، Tether Gold و PAX Gold ، وعملات أخرى قيد التطوير في روسيا والصين، وتتيح هذه العملات، مرونة التكنولوجيا الرقمية بجانب الثقة في الذهب كأصل حقيقي، هذه الابتكارات قد تسهم في تسريع التحول نحو نظام مالي جديد، يسمح بتبادل أكثر أمانًا وشفافية بين الدول دون الاعتماد على الدولار.
حتى الآن، لا تزال مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تتمسك بالدولار كوحدة أساسية للتقييم والتعامل، لكن الضغط يتزايد من دول ناشئة لإعادة النظر في قواعد النظام المالي العالمي.
وقد يدفع التوسع في استخدام الذهب في الاحتياطيات والمعاملات إلى إصلاحات جوهرية تشمل، إعادة هيكلة حقوق السحب الخاصة، والاعتراف بالذهب كجزء رسمي من النظام الاحتياطي العالمي، ودعم عملات متعددة قائمة على الذهب ضمن سلة دولية جديدة
رغم المزايا المتعددة لنظام مالي يعتمد على الذهب، إلا أن هناك تحديات تقنية واقتصادية تحول دون اعتماده الكامل في الوقت الراهن، أبرزها، محدودية حجم الذهب مقارنة بحجم التجارة العالمية، والحاجة إلى نظام موحد وشفاف لتسعير وتداول الذهب، ومقاومة الدول المهيمنة على النظام الحالي، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن التوجه العالمي واضح، ويتضمن تقليص الاعتماد على الدولار تدريجيًا، وتعزيز مكانة الذهب في مكونات النظام المالي.
في ظل الفوضى النقدية وغياب الثقة المتزايد في العملات الورقية، بات من الواضح أن العالم يسير بخطى ثابتة نحو نظام مالي أكثر توازنًا واستقرارًا، يكون فيه للذهب دور محوري.
قد لا نرى نظامًا مشابهًا لبريتون وودز غدًا، لكن المؤشرات تدل على أن المرحلة المقبلة ستشهد صعودًا تدريجيًا لنظام متعدد الأقطاب، مدعوم بالأصول الحقيقية، وعلى رأسها الذهب.