الصيغة السليمة للسؤال ينبغي أن تكون لماذا يستمر ارتفاع الذهب؟
والإجابة على ذلك فصلتها سابقا بشكل واضح في أكثر من مشاركة، وتصريح.
حيث يقع ما حدث يوم الجمعة ضمن الصورة الكلية الحالية للاقتصاد الدولي.
حيث تُشعل الولايات المتحدة حربًا تجارية لا هوادة فيها، ليس ضد طرف واحد، وإنما ضد العالم كله، متخذة الكثير من الإجراءات الحمائية الأكثر عدائية وشراسة، وبأعلى قيمة ووتيرة منذ الحرب العالمية الثانية.
مما أدى إلى زعزعة الاستقرار الدولي، وارتفاع معدلات انعدام االثقة، واللايقين في مستقبل النظام الدولي الحالي.
النظام الذي تعمل الولايات المتحدة على تفكيكه بشكل غريب، وذلك من خلال انسحابها من المؤسسات والاتفاقيات الدولية ذات الارتباط، ومحاربة ومعاقبة الكثير من مؤسسات هذا النظام، إما بوقف الدعم المادي، أو بتجميد، وعدم تنفيذ قراراتها، مما يفقد هذه المؤسسات مبررات وجودها التي تم الاتفاق عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وبموجبها تم إنشاء النظام الدولي الحالي.
في جو كهذا تتعرض قواعد النظام الأساسية لأكبر موجة من انعدام الثقة، وعلى رأسها النظام النقدي، الذي يعتبر حجر الزاوية الذي قام عليه هذا النظام، حيث تم الاتفاق على اعتبار الدولار الأمريكي عملة الأساس للنظام وبديلا لقاعدة الذهب، التي أطاحت بها الولايات المتحدة مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما تعرض مخزونها من الذهب للنفاذ على وقع مطالبات بعض الدول باسترداد ذهبها مقابل الدولار، مما يعد إفلاتا من إعلان الإفلاس، بقوة السلاح، وليس وفقا للقواعد الاقتصادية المتعارف عليها.
حيث لم تجرؤ دولة على اتهام الولايات المتحدة بالتنصل من دفع ما عليها من ذهب مقابل الورق الذي أغرقت به العالم.
واليوم وبعد ما يقارب نصف قرن من صدمة نيكسون (1971) تغيرت فيها موازين القوى العظمى، وتراجعت فيها حصة الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد الدولي.
وصعد الاقتصاد الصيني ليتربع على العرش، مع خلفية عسكرية لا يستهان بها، وقدرة على حماية تلك المكتسبات من أي تنمر، أو تحرش أميركي، ظهرت جلية في الردود الصينية الخشنة على قرارات رفع التعريفات الجمركية على صادراتها للولايات المتحدة، حيث قابلتها بالمثل، مع التوسع في فرض العقوبات والحظر على صادرات المواد الأكثر طلبا وحساسية للاقتصاد الأمريكي، وعلى راٍسها المعادن النادرة.
وظهر جليا التفوق الاقتصادي الصيني الكاسح، على جميع الأصعدة، وعلى رأسها الصناعات الثقيلة، والتكنولوجية، والدفاعية.
كل ذلك بالتوازي مع ثورة دولية عارمة ضد الدولار، أفرزت تحركات واسعة نحو تحالفات عدة، على رأسها تحالف بريكس الذي يعتمد التخلي عن الدولار – De-Dollarization- منهجية أساسية في التعاملات التجارية بين الأعضاء، مع السعي لتوسيع تلك القاعدة لتشمل العالم كله.
مع إنشاء نظام دفع دولي مواز يعتمد العملات المحلية، مقابل لنظام سويفت الذي يقوم على الدولار، مع مزايا عديدة مرتبطة بسرعة التنفيذ، وسهولة الإجراءات، بما ينعكس بالإيجاب على حركة التجارة الدولية، وهو ما ساعد على سرعة انتشار النظام، بما يسمح بالوصول لعولمته بوتيرة أسرع مما كنا نتخيل.
هذا إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، جيوسياسية، ودبلوماسية تتعلق حتى بأسلوب التعامل مع الحلفاء، والمنافسين، والأعداء، وما شاب هذه التعاملات من (عجرفة) وعدم لباقة، وافتقار للدبلوماسية، مما أدى لتوسع الهوة والفجوة بين الولايات المتحدة، ليس بينها وبين المنافسين فقط، وإنما بينها وبين أقرب الحلفاء!
كل هذه العوامل عملت على انعدام الثقة بالنظام الدولي الحالي، وبجميع مفرزاته، وقواعده، وعلى رأسها، كما قلت، النظام النقدي.
وهو ما أدى لارتفاع وتيرة شراء الذهب كنقد، ضمن مشتريات البنوك المركزية منه، لزيادة حيازتها من الذهب على حساب الدولار.
لتسجل مشتريات البنوك المركزية من الذهب اعلى سلسلة شراء مستمرة منذ 2008، تحديدا منذ الأزمة المالية الأمريكية التي كانت الشرارة التي أطلقت موجة التخلي عن الدولار، عالميا، مع ظهور عورات النظام المالي الأمريكي، والتي استمرت حتى الآن دون الوصول لعلاج حقيقي، أو تراجع واضح لآثارها، وهو ما انعكس بالسلب على وضع الاقتصاد الأمريكي، الذي لم يستعد عافيته أبدا منذ أزمة 2008، بل استمر في تسجيل التراجعات حتى فقد وضعه المهيمن عالميا، لصالح الاقتصاد الصيني الذي سجل ومازال يسجل أعلى معدلات النمو، بدون الوقوع في فخ الديون المفتوحة دون سقف كالأمريكي، الذي يتغذى حاليا على الديون غير المضمونة.
يظهر الذهب في مثل هذه الظروف كحل منطقي، باعتباره المال الحقيقي، الذي تحاول الأوراق النقدية ضمان الدفع به!
فإذا انعدمت الثقة بالورق لجأت الدول للذهب.
وما حدث يوم الجمعة كان ردا طبيعيا على قرارات ترامب يفرض أعلى رسوم جمركية منذ الحرب العالمية الثانية
حيث تتراوح الرسوم الجمركية التي أعلنها الرئيس الأميركي مؤخراً بين 10% إلى 41%
هذه الرسوم كفيلة بضرب الاقتصاد العالمي، حيث ستخفض النمو وتغذي التضخم، خاصة في الولايات المتحدة، التي تتمتع بحساسية فائقة للتضخم، بسبب نظامها المالي المعقد، الذي يعتمد على الفائدة المركبة، متعددة الطبقات، مع حجم دين داخلي وخارجي فاق معدلات النمو.
لهذا لا يمكن التفكير في تراجع اسعار الذهب على المدى المنظور، اللهم إلا تحركات تصحيحية عرضية، يظل حلالها الاتجاه للارتفاع هو الاتجاه الثابت الوحيد.