كتب: وليد فاروق
في ظل الاضطرابات الاقتصادية العالمية المتزايدة، التي تتسم بتضخم متسارع، وتراكم الديون السيادية، وتصاعد الحروب التجارية التي تهدد استقرار سلاسل التوريد، يبرز الذهب مجددًا كأحد أبرز الملاذات الآمنة ضد حالة عدم اليقين، لم يعد المعدن الأصفر مجرد سلعة تقليدية أو زينة، بل تحول إلى أصل استراتيجي يعكس مخاوف الأسواق من مستقبل النظام المالي العالمي، هذا التحقيق يستعرض الصعود القياسي للذهب، ويكشف عن القوى الدافعة وراء هذا الارتفاع، مع تسليط الضوء على المخاطر الكامنة التي قد تهدد استدامته.
صعود قياسي: قفزات متتالية تعكس أزمة عالمية
شهد الذهب ارتفاعًا غير مسبوق خلال السنوات الثلاث الماضية، مما جعله محور اهتمام الأسواق العالمية، فمنذ عام 2023 وحتى أغسطس 2025، حقق المعدن النفيس قفزة مذهلة بلغت حوالي 95%، مما يعكس تحوله إلى مؤشر رئيسي للأزمات الاقتصادية والجيوسياسية:
•2023: ارتفع الذهب بنسبة 15%، مدفوعًا بالتوترات الجيوسياسية وضعف الدولار الأمريكي.
•2024: واصل الذهب صعوده محققًا مكاسب بنسبة 27%، بدعم من السياسات النقدية للبنوك المركزية والطلب الرسمي المتزايد.
•2025: حتى 26 أغسطس، بلغت المكاسب 33.7%، مدفوعة بشكل خاص بالحديث المتصاعد عن فرض رسوم جمركية أمريكية على السبائك الذهبية.
هذه الوتيرة المتسارعة وغير المسبوقة في ارتفاع الأسعار تثير تساؤلات جوهرية في الأوساط الاقتصادية: هل يشير هذا الصعود إلى تحول طويل الأمد في قيمة الذهب، أم أنه مجرد فقاعة تحوّطية قد تنفجر في أي لحظة؟
البنوك المركزية: المشتري الخفي والبحث عن التنويع
أصبحت البنوك المركزية لاعبًا محوريًا في سوق الذهب العالمي، حيث تجاوزت مشترياتها حاجز 1000 طن سنويًا لثلاث سنوات متتالية، مما يؤكد دورها المتزايد كمشترٍ رئيسي للمعدن الأصفر، تعكس هذه المشتريات رغبة متزايدة في تنويع الاحتياطيات بعيدًا عن الدولار الأمريكي، في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي.
•الربع الثاني من 2025: سجلت مشتريات البنوك المركزية 166.5 طنًا.
•الصين: رفعت احتياطياتها إلى 2300 طن بإضافة 21 طنًا منذ بداية العام، مما يعزز مكانتها كأكبر حائز للذهب بين البنوك المركزية.
•بولندا: تصدرت المشهد الأوروبي بشراء حوالي 67 طنًا حتى مايو.
وفقًا لاستطلاع أجراه مجلس الذهب العالمي، يتوقع 95% من البنوك المركزية زيادة احتياطياتها من الذهب، بينما يخطط 43% منها للشراء فعليًا. هذه الأرقام تشير بوضوح إلى استراتيجية عالمية للبحث عن ملاذات آمنة وتنويع المحافظ الاستثمارية في مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة.
صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs): تدفقات قياسية تعكس اهتمام المستثمرين
لم يقتصر الإقبال على الذهب على البنوك المركزية فحسب، بل امتد ليشمل المستثمرين الأفراد والمؤسسات عبر صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs)، التي شهدت تدفقات قياسية تعكس تزايد الاهتمام بالمعدن الأصفر كأداة استثمارية:
•النصف الأول من 2025: جذبت صناديق المؤشرات المتداولة تدفقات بقيمة 21 مليار دولار، ما يعادل إضافة 397 طنًا من الذهب إلى حيازاتها.
•إجمالي الحيازات: ارتفعت حيازات هذه الصناديق إلى 3616 طنًا، بقيمة إجمالية بلغت 383 مليار دولار.
•يوليو 2025: أضيفت 23 طنًا جديدة في شهر يوليو وحده، ليرتفع إجمالي الأصول المدارة إلى 386 مليار دولار.
تؤكد هذه الأرقام الدور المتنامي لصناديق المؤشرات المتداولة كقناة رئيسية للمستثمرين الراغبين في التعرض لسوق الذهب، مما يعكس الثقة المتزايدة في قدرته على الحفاظ على القيمة في أوقات عدم اليقين الاقتصادي.
الأسواق الناشئة: الذهب من زينة إلى وسيلة نجاة
على الرغم من الارتفاع القياسي في أسعار الذهب، ظلت الأسواق الناشئة، وخاصة الصين والهند، مراكز رئيسية للطلب الشعبي على المعدن الأصفر، يشير هذا إلى تحول في نظرة المستهلكين للذهب، من مجرد زينة اجتماعية إلى أداة ادخار وحماية مالية في مواجهة التحديات الاقتصادية:
•الصين: تضاعفت واردات الصين من الذهب عبر هونج كونج بنسبة 126% في يوليو، مما يعكس استمرار الطلب القوي من قبل المستهلكين الصينيين.
•الهند: على الرغم من تراجع المبيعات بسبب الأسعار المرتفعة، بدأ التجار الهنود في تخزين الذهب استعدادًا لموسم الأعياد والأعراس، مما يدل على الطلب الكامن والثقة في قيمة الذهب على المدى الطويل.
المفارقة اللافتة هي أن مشتريات المشغولات الذهبية تراجعت بنسبة 14% عالميًا في الربع الثاني من العام، بينما قفز الاستثمار المؤسسي والشعبي في الذهب بنسبة 78%.
هذا التحول يؤكد أن الذهب لم يعد يُنظر إليه كرمز للرفاهية بقدر ما هو وسيلة أساسية للحفاظ على الثروة وحمايتها في أوقات الأزمات الاقتصادية.
الضغوط المالية العالمية: الديون تتصاعد والأسعار تنفلت
يُضاف المشهد المالي العالمي المعقد إلى العوامل التي تدفع أسعار الذهب نحو الارتفاع، فمع تزايد المخاوف بشأن مستويات الديون والتضخم، يبحث المستثمرون عن ملاذات آمنة:
•الدين العام العالمي: من المتوقع أن يتجاوز الدين العام العالمي 95% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، مما يشير إلى تزايد الأعباء المالية على الحكومات.
•مدفوعات الفائدة الأمريكية: تجاوزت مدفوعات الفائدة الأمريكية تريليون دولار في أقل من عام مالي واحد، مما يبرز حجم التحدي الذي تواجهه الاقتصادات الكبرى في إدارة ديونها.
على الرغم من أن العوائد الحقيقية للسندات لأجل عشر سنوات تدور حول 1.86%، فقد واصل الذهب صعوده مدفوعًا بمخاوف “الهيمنة المالية”. هذه المخاوف تشير إلى أن البنوك المركزية قد تُجبر على التركيز على خدمة الديون الحكومية بدلاً من مكافحة التضخم، مما يزيد من جاذبية الذهب كأصل يحمي من تآكل القوة الشرائية للنقود.
هل الصعود مستدام؟ مخاطر وتحديات تواجه بريق الذهب
على الرغم من الزخم الكبير الذي يشهده سوق الذهب، فإن المشهد لا يخلو من المخاطر والتحديات التي قد تؤثر على استدامة هذا الصعود القياسي:
•تباطؤ مشتريات البنوك المركزية: شهد الربع الثاني من العام تباطؤًا في مشتريات البنوك المركزية، مما يذكّر بأن الطلب الرسمي على الذهب ليس مضمونًا وقد يتغير بتغير الظروف الاقتصادية والسياسات النقدية.
•قوة الدولار وارتفاع العوائد الحقيقية: يمكن أن تؤدي قوة الدولار الأمريكي أو ارتفاع العوائد الحقيقية للسندات إلى خصم ما بين 10% إلى 20% من سعر الذهب، فالعلاقة العكسية بين الدولار والذهب، وكذلك بين العوائد الحقيقية والذهب، تجعل هذه العوامل مؤثرة بشكل كبير على جاذبية المعدن الأصفر.
•ضعف الطلب الاستهلاكي: يكشف ضعف الطلب الاستهلاكي، خاصة في الأسواق الآسيوية الكبرى مثل الصين والهند، عن هشاشة الطلب الفعلي عند مستويات الأسعار الحالية، فمع ارتفاع الأسعار، قد يقل إقبال المستهلكين على شراء الذهب لأغراض الزينة أو الادخار التقليدي.
تُشكل هذه المخاطر عوامل ضغط محتملة على أسعار الذهب، وتطرح تساؤلات حول ما إذا كان الصعود الحالي يعكس قيمة حقيقية مستدامة أم أنه عرضة للتصحيح في حال تغيرت الظروف الاقتصادية الكلية.
الذهب بين إعادة التسعير الهيكلي والفقاعة المحتملة
يتجاوز الذهب اليوم كونه مجرد سلعة تقليدية أو مجوهرات للزينة؛ لقد أصبح أصلًا استراتيجيًا لا غنى عنه في مواجهة اضطراب النظام المالي العالمي، يعكس صعوده القياسي مخاوف عميقة من التضخم، والديون المتزايدة، وعدم اليقين الجيوسياسي، مما يجعله ملاذًا آمنًا للمستثمرين والبنوك المركزية على حد سواء.
ومع ذلك، فإن بريق الذهب لا يخلو من التحديات، فتباطؤ مشتريات البنوك المركزية، وتأثير قوة الدولار، وضعف الطلب الاستهلاكي عند مستويات الأسعار الحالية، كلها عوامل تثير تساؤلات حول استدامة هذا الصعود، يبقى السؤال الأهم الذي يواجه الأسواق، هل يشهد العالم إعادة تسعير للمعدن الأصفر تعكس دوره الجديد في الاقتصاد العالمي، أم أننا أمام فقاعة جديدة تنتظر أول انعطافة في السياسة النقدية العالمية لتنفجر؟