واصلت أسعار الذهب العالمية ارتفاعها القوي خلال تعاملات الأسبوع، لتقترب من مستوى 4000 دولار للأوقية، في موجة صعود تاريخية تُعد من الأعنف منذ سبعينيات القرن الماضي، مدعومة بمشتريات مكثفة من البنوك المركزية وتزايد القلق الاقتصادي العالمي وتصاعد التحوّط ضد المخاطر الجيوسياسية.
وقال ستيفن إينيس، الشريك الإداري في شركة SPI Asset Management، إن الارتفاع الصاروخي للذهب هذا العام بنسبة تتجاوز 45% منذ بداية 2025 لا يُعد مجرد مكسب للمستثمرين، بل يحمل في طياته مؤشرات مقلقة تُذكّر بفترات الاضطراب الاقتصادي الكبرى.
وأوضح أن المعدن الأصفر لا يصعد فقط كاستثمار، بل كرسالة تعكس حجم القلق وانعدام اليقين الذي يسيطر على الأسواق، مشيرًا إلى أن الأسعار تجاوزت بالفعل جميع مستويات المقاومة النفسية وبلغت قممًا تاريخية معدّلة بالتضخم لم تشهدها الأسواق منذ عام 1980.
وأكد إينيس في تقرير له، أن هذا الصعود لا يُمكن تفسيره فقط بارتفاع معدلات التضخم، لأن سوق السندات الأمريكية لا يُظهر إشارات فزع مثل ارتفاع حاد في العوائد طويلة الأجل، ما يعني أن العوامل المحركة للذهب تتجاوز التضخم إلى مزيج أكثر تعقيدًا يشمل مشتريات ضخمة من البنوك المركزية، وهروب رؤوس الأموال من العملات الورقية، وتزايد الرغبة في التحوّط من المخاطر الجيوسياسية، وهو ما يعكس تراجع الثقة في النظام المالي العالمي.
وأضاف أن البنوك المركزية أصبحت المحرك الرئيسي لهذه الموجة، حيث تتجه العديد من الدول إلى تنويع احتياطاتها بعيدًا عن الدولار الأمريكي لأسباب استراتيجية بحتة، في ظل تزايد القناعة بأن النظام المالي العالمي يدخل مرحلة إعادة تموضع جديدة، وضرب مثالًا بقرار الصين فتح مركز احتياطي رسمي للذهب في شنجهاي، والذي يُعد خطوة رمزية تحمل رسالة مفادها أن أي تعديل في بنية النظام المالي العالمي سيصاحبه توسع في حيازة الذهب كأصل احتياطي رئيسي.
ورغم الأداء القوي للأسهم الأمريكية، يرى التقرير أن هذا الصعود ليس مدفوعًا فقط بالعوامل الأساسية، بل بالتوسع النقدي وتراجع مصداقية الدولار، خاصة مع عودة السياسات التيسيرية من جانب الاحتياطي الفيدرالي.
وأشار إينيس إلى أن تصريحات رئيس الفيدرالي، التي أكد فيها أنه “لا يوجد طريق خالٍ من المخاطر”، تُبرز هشاشة الوضع المالي، وأن المستثمرين باتوا يتجهون نحو الأصول الصلبة مثل الذهب كضمان طويل الأجل أمام التوسع النقدي وفقدان العملات الورقية لقيمتها.
ويرى الخبير المالي أن صعود الذهب في عام 2025 يُشبه من حيث الدلالة مرحلة عام 1979 حين فقد المستثمرون الثقة في قدرة الحكومات على السيطرة على التضخم، لكنه يختلف من حيث الدوافع؛ فالموجة الحالية ليست ذعرًا شعبيًا أو مضاربات فردية كما حدث في 2011، بل تحرك استراتيجي محسوب من جانب الدول والمؤسسات المالية الكبرى لإعادة ضبط موازين القوة داخل النظام المالي الدولي.
وأشار التقرير إلى أن أي تراجع طفيف في الأسعار لا يُغير الاتجاه العام الصاعد، حيث تراجعت الأسعار من مستوى 3791 دولارًا إلى نحو 3760 دولارًا للأوقية وهو ما يُعد تصحيحًا فنيًا مؤقتًا في مسار صاعد قوي تدعمه العوامل الأساسية والطلب المؤسسي المستمر.
ويختتم التقرير بالتأكيد على أن الارتفاع الحالي ليس مجرد ظاهرة مالية، بل رسالة اقتصادية عميقة مفادها أن العالم يشهد مرحلة إعادة تموضع للنظام المالي العالمي، تعود فيها الذهب إلى موقعه التاريخي كمعيار حقيقي للقيمة ومخزن آمن للثروة، في وقت تتآكل فيه الثقة بالعملات الورقية وتتصاعد فيه التحديات الاقتصادية والسياسية العالمية.