عندما يُذكر اسم “سورات“، لا يُستحضر مجرد اسم مدينة هندية تقع على الساحل الغربي في ولاية جوجارات، بل يُستحضر مركز عالمي لصقل الألماس وتجارته، يُحوّل الأحجار الخام القادمة من أقصى بقاع الأرض إلى ماسات براقة تتزين بها أهم دور المجوهرات في العالم.
صناعة تلميع الألماس: الريادة العالمية من مدينة محلية
بحسب التقديرات الحديثة، تُعد سورات مسؤولة عن تلميع أكثر من 90% من إجمالي الألماس المُستخدم عالميًا، وأكثر من 99.99% من الماس الذي يُصقل داخل الهند، وهو ما يجعلها تمثل العمود الفقري لصادرات الهند من الأحجار الكريمة، حيث تستحوذ بمفردها على 90% من إجمالي صادرات البلاد من الماس.
ولا تُعد هذه النسب مجرد أرقام؛ إذ تشير التقديرات إلى أن 9 من أصل كل 10 ماسات تُباع في أسواق مانهاتن في نيويورك، قد صُقلت في سورات.
تطور تاريخي بدأ بالمصادفة… ونما بالفرصة
بدأت حكاية سورات مع الألماس في أوائل القرن العشرين، عندما عاد شقيقان من مجتمع باتيدار الجوجاراتي من جنوب إفريقيا في عام 1900، حاملين معهم فنون تلميع الألماس، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت لاحقًا، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما نزح الحرفيون الهنود من مدينة رانجون (يانجون حاليًا) في ميانمار، هربًا من الغزو الياباني، وعادوا إلى سورات ليعيدوا إحياء الحرفة هناك.
ساعدت هذه العودة على توطين الخبرة التقنية داخل سورات، ومع الطفرة في الطلب الأمريكي خلال السبعينيات والثمانينيات، نمت الصناعة بشكل غير مسبوق، لتتحول المدينة إلى مركز عالمي لمعالجة الألماس.
من الحرفية إلى التكنولوجيا المتقدمة
ما يميز صناعة الألماس في سورات هو تطورها التدريجي من الاعتماد الكامل على الحرفيين التقليديين إلى إدخال التقنيات الحديثة وأجهزة القطع الدقيقة. فبينما كان التلميع يتم على عجلات إسمنتية بدائية قبل عقود، أصبحت ورش سورات اليوم مجهزة بأحدث آلات القطع بالليزر، لتواكب معايير الجودة العالمية.
كما تلعب العائلات دورًا محوريًا في الصناعة، إذ تنتشر الشركات التي يعمل فيها أكثر من ثلاثة أجيال من نفس العائلة، وهو ما يعزز من نقل المعرفة والحفاظ على استمرارية المهارة.
شبكة عالمية تبدأ في إفريقيا وتنتهي في سورات
تبدأ رحلة الألماس الخام عادة من مناجم إفريقيا، روسيا وكندا، ليُشحن إلى مراكز التجارة العالمية مثل أنتويرب في بلجيكا، والتي بدورها ترسله إلى سورات، هنا، يتولى أكثر من 700,000 عامل في ما يزيد عن 6000 وحدة تصنيع مهمة تحويل الأحجار الخام إلى ماسات متلألئة، تُقدَّر قيمة هذه الصناعة بنحو 24 مليار دولار سنويًا.
ولعب الجالية الجوجاراتية في أنتويرب دورًا محوريًا في ترسيخ العلاقة بين المدينتين، وساهمت في خلق قناة تجارية فعالة لنقل الألماس الخام إلى سورات ومعالجته ثم تصديره إلى الأسواق العالمية.
الاقتصاد المحلي في خدمة الصناعة
بلغ الناتج المحلي الإجمالي لمدينة سورات نحو 40 مليار دولار في عام 2016، وقفز إلى نحو 57 مليار دولار في عام 2020، بفضل تنوع قطاعاتها الإنتاجية التي تشمل إلى جانب الألماس: صناعة النسيج، والبتروكيماويات، وبناء السفن، والسيارات، والموانئ.
ويمثل قطاع الألماس دعامة أساسية لهذا الاقتصاد، إلى جانب خلقه لمئات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
تحديات المرحلة: الجائحة وتراجع الطلب
رغم تفوق سورات الصناعي، لم تكن في منأى عن التحديات. ففي عام 2019، انخفضت صادرات الهند من الألماس بنسبة 18% بسبب ضعف الطلب العالمي. وزاد التأثير سلبًا في عام 2020 مع تفشي جائحة كوفيد-19، التي أدت إلى توقف شبه تام في وحدات التصنيع لعدة أشهر.
لكن الصناعة سرعان ما استعادت عافيتها، بدعم من الطلب المتجدد في الأسواق الآسيوية والأمريكية، وبتكامل غير مسبوق بين البنية التحتية المحلية وخبرة القوى العاملة.
سورات… حين يصبح المحلي عالميًا
في مدينة سورات، يتحقق شعار “فكّر عالميًا، واعمل محليًا” بأبهى صوره. هنا، تتلاقى المهارة اليدوية مع أحدث أدوات التكنولوجيا، وتُعالج الأحجار الخام القادمة من قارات بعيدة لتصبح جزءًا من مجوهرات تُعرض في نيويورك وباريس وطوكيو.
وبينما تمضي سورات في طريقها نحو ترسيخ مكانتها كعاصمة الألماس في العالم، فإن قصتها تظل شاهدًا على كيف يمكن لمدينة محلية أن تصبح محورًا دوليًا يُضيء على الخريطة الاقتصادية العالمية.