استُخدم الذهب في ثقافات مختلفة منذ العصور القديمة، كوسيلة للتبادل أو للدفع، وكان رمزًا عالميًا للثروة وكنزًا لا يفقد قيمته عبر العصور، لكن وراء بريقه الجذاب تكمن حقيقة مقلقة: هذا المعدن الثمين يُعد واحدًا من الأصول الأكثر استغلالاً من قبل الشبكات الإجرامية والإرهابية لغسل الأموال وتحويل العائدات غير المشروعة.
تشير تقديرات مجموعة العمل المالي (FATF) إلى أن قيمة الذهب المستخدم سنويًا في عمليات غسل الأموال تتراوح بين 20 و48 مليار دولار عالميًا.[1]
إن الخصائص الفريدة للذهب تجعله مثاليًا للجريمة المنظمة، حيث يُستخدم لتحويل الأموال النقدية غير المشروعة إلى أصول مستقرة مجهولة المصدر وقابلة للنقل عبر الحدود بسهولة.
جاذبية الذهب للمجرمين:
تنجذب جماعات الجريمة المنظمة إلى الذهب لعدة خصائص وأسباب جوهرية تدعم السرية وتُسهل الحركة وتجعله وسيلة فعالة في التمويل غير المشروع:
- تركيز القيمة العالي: يسمح الذهب بنقل قيمة مالية ضخمة في حجم مادي صغير، ما يجعله مثاليًا للتهريب وتجنب الضوابط الجمركية. كشفت التقارير الإعلامية الأمريكية عن اعتراض شحنات ذهب بين أمريكا الشمالية والجنوبية، حيث تم إذابة الذهب وإخفاءه في شكل هدايا تذكارية أمريكية، يسهل من خلال هذه الأشكال إخفاء الذهب عن سلطات الحدود، ويسهل كذلك التقليل من قيمته على صكوك الشحن مقارنة بقيمته الفعلية.[2]
- السيولة العالمية: يتمتع الذهب بسيولة وقبول عالمي؛ حيث يُقبل كوسيلة للدفع أو الاستثمار في جميع أنحاء العالم دون الحاجة إلى المرور عبر نظام مالي رسمي، ما يضمن تحويله السريع إلى نقد (نظيف) في أي سوق.
- صعوبة التتبع: الافتقار إلى سجلات ملكية مركزية وشفافة في كثير من الأحيان يجعل تتبع مصدر الذهب ومنشأه أمرًا معقدًا على سلطات إنفاذ القانون.
نقاط الضعف الهيكلية في صناعة الذهب:
تتكون رحلة الذهب من الإنتاج إلى المستهلك والمستثمر من عدة مراحل، إذ أن هناك مصدران رئيسيان للذهب الجديد الذي يتم طرحه في السوق كل عام، الأول هو الذهب الذي يتم تعدينه، والثاني هو الذهب الذي يعاد تدويره، ويمثل التعدين ثلثي إنتاج الذهب الجديد، وتمثل إعادة التدوير الثلث المتبقي.
ويكتسب فهم مصادر الذهب وطرق دخوله إلى الأسواق العالمية أهمية خاصة عند تحليل الثغرات التي تستغلها الشبكات الإجرامية، إذ يكمن الخطر الأكبر في سلسلة الإمداد نفسها، حيث تظهر ثغرات مستمرة يستغلها المجرمون لإخفاء أصول الأموال، ومنها على سبيل المثال:
- سرقة الخام المستخرج: يتم احتساب تركيز الخام المستخرج بطريقة تقديرية، ومن هنا تتسلل جماعات الجريمة إلى سلسلة توريد الإنتاج، حيث تسحب الخام المستخرج من المناجم بشكل غير قانوني، وتقوم بتهريبه إلى دولة أخرى لتنقيته ثم بيعه، بهدف تحقيق أرباح.
- الاعتماد على التعاملات النقدية: لا تزال المراحل الأولية لإنتاج الذهب، خصوصًا في قطاع التعدين الحرفي والصغير، تعتمد بشكل كبير على التعاملات النقدية، يُستخدم النقد غير المشروع لشراء الذهب الخام من هذه المصادر، ثم يُعاد بيعه في الأسواق الرسمية عبر وسطاء، ما يضفي الشرعية على الأموال المغسولة.[3]
- الإشراف التنظيمي غير الكافي: لا تزال بعض التشريعات تعتبر تجار الذهب والمعادن الثمينة مهنًا غير مالية لا تخضع للإشراف الكافي في كثير من الدول، ما يخلق قناة سهلة لمرور المعاملات المشبوهة.
مسارات استغلال الذهب في الجرائم المالية:
تتنوع الطرق التي يتم من خلالها استغلال الذهب لخدمة أغراض غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن أبرز هذه الطرق:
- غسل الأموال عبر التجارة: التلاعب بسعر الذهب في الفواتير (سواء بالزيادة أو النقصان عن القيمة السوقية) أثناء استيراده أو تصديره، لنقل قيمة مالية غير شرعية عبر الحدود تحت غطاء تجارة مشروعة.
- تمويل الإرهاب: يُستخدم الذهب كـمخزن للقيمة أو كـعملة مقايضة لدفع رواتب المقاتلين المرتزقة وشراء المعدات في مناطق النزاع، خاصة عندما تكون البنية التحتية المصرفية معطلة.
- إعادة التدوير والتزوير: يلجأ المجرمون إلى “إعادة التدوير” والتزوير، حيث يتم دمج الذهب المُهرَّب أو الناتج عن جرائم أخرى مع الذهب المشروع في مصاهر غير مرخصة، ثم صبه في سبائك تحمل دمغات رسمية مزيفة لتبييض مصدره الأصلي غير القانوني.
ضرورة تعزيز اليقظة العالمية والمكافحة:
إن مكافحة إساءة استخدام الذهب تتطلب جهدًا عالميًا منسقًا يرتكز على تطبيق تدابير قوية لمكافحة الجرائم المالية:
- يجب على المؤسسات المالية وتجار المعادن الثمينة تطبيق إجراءات العناية الواجبة المعززة (EDD)،[4] وهي عملية تشترطها مجموعة العمل المالي الرقابية المعنية بغسيل الأموال، تتضمن تلك الإجراءات جمعًا شاملًا للمعلومات حول تاريخ العميل المُحتمل، وملف المخاطر، وسمعته، بما في ذلك مبدأ “اعرف مصدر الذهب الخاص بك”، لضمان نزاهة سلاسل التوريد.
- توسيع نطاق الإشراف ليشمل جميع حلقات سلسلة الإمداد بالذهب، من منشآت التعدين الصغيرة إلى محلات المجوهرات.
- وأخيرًا لا غنى عن التعاون الدولي الفعال لتبادل المعلومات بين الدول حول تحركات الذهب المشبوهة والشبكات الإجرامية التي تقف وراءها.
في نهاية الأمر، لا يمكن أن يُترك الذهب هذا الأصل القيّم والاستراتيجي، ليصبح أداة للجريمة المنظمة، إن تأمين سلسلة إمداده هو خط دفاع أساسي ضد غسل الأموال وتمويل الإرهاب عالميًا.
[1] مجموعة العمل المالي (FATF). (2015). “المخاطر ونقاط الضعف المرتبطة بالذهب في مجال غسل الأموال وتمويل الإرهاب”، مجموعة العمال المال، باريس.
[2] Idem
[3] United Nations Office on Drugs and Crime. (2025). Minerals Crime: Crimes in the supply chains of critical energy transition minerals, United Nations. Available at: https://www.unodc.org/documents/data-and-analysis/Crimes%20on%20Environment/Minerals_Crime/Critical_minerals_2025.pdf
[4] Jessica Donohue. (2023). What is enhanced due diligence?, Available at: https://www.diligent.com/resources/blog/enhanced-due-diligence?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=tc

















































































