كتب: د.وليد فاروق
يشهد سوق الذهب المصري خلال السنوات الأخيرة تحوّلًا واضحًا في سلوك المستهلكين، مع تفضيل شريحة واسعة الادخار عبر شراء السبائك والجنيهات بدلاً من المشغولات، هربًا من المصنعية ورغبة في تحقيق هامش ربح أكبر، خاصة مع تراجع قيمة العملة المحلية.
غير أن هذا التحول تزامن مع انتشار «السبائك المغلّفة»، التي تطرحها بعض الشركات مع اشتراط عدم فتح الغلاف مقابل الحصول على نسبة الاسترداد (الكاش باك)، وهو ما خلق ثغرة واسعة للغش وطرح سبائك مزيفة يصعب كشفها بسبب التغليف المحكم، في ظل ارتفاع أسعار الذهب لمستويات قياسية غير مسبوقة،
سبائك مغشوشة داخل غلاف محكم: أزمة تتوسع
أصبح السوق، بحسب تجار وخبراء، يعجّ بحالات سبائك مزيفة مغلّفة باحترافية عالية، حتى باتت تُتداول «أطنان» من السبائك الذهب، قد يعجز التجار عن تحديد هوية المزيف من الحقيقي، في ظل تداولها مغلفة.
ويؤكد متخصصون أن الغلاف يمنع التجار والمستهلكين من إجراء أبسط اختبارات الفحص المتعارف عليها، ما فتح الباب أمام ورش تنتج سبائك مطلية ومحكمة التغليف يصعب تمييزها.
وفي واقعة حديثة، كشف تاجر الذهب المعروف غطاس عياد أنه اشترى سبيكة مغلفة من إحدى العملاء، وهي لإحدى العلامات الشهيرة ليتبين لاحقًا أنها مصنوعة من الفضة المطلية بالذهب.
وقال إن السبيكة كانت تحمل «باركود ورقمًا تسلسليًا وصورة تغليف احترافية»، ما يشير إلى أن عملية فتح السبيكة الأصلية وإعادة تغليف سبيكة مزيفة أصبحت تتم بدرجة عالية من الإتقان.
وأضاف عياد، الذي يمتلك خمسين عامًا من الخبرة في تجارة الذهب، أن قدرته على تمييز الذهب من النظرة واللمس أصبحت بلا جدوى أمام موجة التغليف التي حرمت التجار من أي وسيلة للفحص، مؤكدًا أن الأسلوب الحالي يهدد مدخرات المصريين ويفتح الباب أمام عمليات نصب متزايدة.
غياب رقابة كافية… ومن يتحمل المسؤولية؟
ورغم تكرار حالات الغش، لا تزال شركات عديدة تشترط عدم فتح الغلاف كشرط أساسي لاسترداد السبيكة، وهو ما يعتبره الخبراء «تسهيلًا غير مباشر» لمرور السبائك المزيفة في السوق.
ويؤكد عياد أنه لا يمكن اتهام العلامات التجارية المباشرة بالتورط، لكنها تتحمل مسؤولية «غياب آليات الحماية» لمستخدمي منتجاتها، وعدم اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية المستهلكين من تداول سبائك مغشوشة تحمل غلافها وبياناتها.
ويطرح التجار سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لمفتشي مصلحة الدمغة والموازين التفتيش على سبائك لا يُسمح بفتح غلافها؟
وهي إشكالية تجعل الرقابة شبه مستحيلة، وتفتح الباب أمام دورة مستمرة من السبائك المغشوشة داخل السوق.
تأثيرات خطيرة على صناعة الذهب
قال أحمد سيد، خبير أسواق الذهب، إن شركات عديدة تستغل فكرة التغليف ليس فقط لأغراض الحفظ بل لإعادة تدوير السبيكة وبيعها دون صهر أو دمغ جديد، وهو ما يسهّل تداول المزيف ويجعل «الكاش باك» قيمة مرتبطة بالغلاف وليس بالمعدن نفسه.
وأضاف أن المستهلكين ينجذبون لنسب الاسترداد ويعتبرونها مكسبًا، بينما قد تكون السبيكة نفسها مزيفة، ما يجعل أي نسبة استرداد بلا قيمة.
وأكد أن انتشار السبائك المغلّفة – خاصة صغيرة الوزن تحت 10 جرامات – يضر بصناعة المشغولات التي تعاني بالفعل من تراجع الإنتاج
تحذيرات من كارثة وشيكة
من جانبه، قال سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة «آي صاغة» لتجارة الذهب والمجوهرات، إن السوق المحلي «مقبل على كارثة» إذا لم يتم وقف تداول السبائك والجنيهات المغلفة، مؤكدًا أن الذهب من المنتجات التي يجب التأكد من سلامتها وفحصها، وأن منع الفحص بحجة الحفاظ على الغلاف يفتح الباب لعمليات غش واسعة.
وأشار إمبابي إلى أن بعض الشركات تعرضت سابقًا لسرقة أغلفتها الأصلية، ورغم ذلك لم تُصدر أغلفة جديدة أو تغيّر التصميم، ما سهّل على البعض إعادة استخدام الغلاف لتمرير سبائك مزيفة في الأسواق.
وأضاف أن ورشًا وشبكات صغيرة بدأت تتخصص في إنتاج سبائك مزيفة مُغلّفة باحترافية، مستغلة صعوبة فحص المنتج.
«التغليف سلاح ذو حدين… والتجار مطالبون بالتحقق من المصدر والفاتورة»
قال كريم سليمان، صاحب محلات «دويجا» للذهب، إن السبائك المغلّفة أصبحت في البداية وسيلة دعائية وشكلًا تسويقيًا جديدًا للشركات، لكنها مع مرور الوقت تحوّلت إلى مصدر قلق بعد تزايد حالات التلاعب، نظرًا لإمكانية فتح الغلاف بإتقان واستبدال السبيكة الأصلية بأخرى مزيفة، قد تكون من الفضة المطلية بالذهب، بحيث يصعب كشفها لارتفاع جودة التقليد. وأضاف أن حتى الأغلفة الحديثة باتت تُقلَّد باحتراف، إذ تُصنع مشابهة للأصل تمامًا وتوضع بداخلها سبائك من النحاس أو الفضة المطلية، ومع كون الغلاف مغلقًا لا يعلم أحد ما بداخله.
وأوضح أن التاجر قد يجد نفسه ضحية لهذا النوع من الاحتيال، إذ قد يشتري سبيكة مغلّفة مزيفة من عميل، ثم يعيد بيعها عميل آخر بحسن نية، ليواجه في النهاية اتهامات بأن التاجر أو حتى الشركة وراء ترويج السبائك المزيفة، وقد يتعرض لمساءلة قانونية رغم أنه لم يرتكب أي خطأ سوى التعامل مع سبيكة مغلّفة.
وأكد أن الأفضل للتجار هو الاعتماد على السبائك التي تحمل رقمًا تسلسليًا أو رمز QR، وأن الأفضل من ذلك هو التعامل بالمنتجات المصحوبة بفواتير رسمية من المحلات الموثوقة، أو الشراء فقط من العملاء الذين سبق بيع الذهب لهم، لتجنب الوقوع في شباك العصابات التي تروّج السبائك المزيفة عبر إعادة بيعها لمحلات مختلفة.
وشدد سليمان على ضرورة إلغاء الكاش باك تمامًا، وأن يكون الغلاف مجرد حماية للسبيكة وليس عائقًا يمنع التجار من فحص الذهب أو قص جزء بسيط منه للتحقق من أصالته عند البيع والشراء. وأشار إلى أن تداول “سبيكة دوّارة” لا يُعرف محتواها يمثل إهدارًا لأموال التجار والعملاء معًا.
كما دعا شركات الذهب إلى تحمل دور أكبر في مواجهة التزوير، مؤكدًا أنه بمجرد تعرّض منتجاتها للتقليد يصبح عليها تعزيز عناصر الأمان، وعدم الاكتفاء بالرقم التسلسلي أو الـDNA، بل تمكين التجار من الوصول لآليات تحقق واضحة وآمنة، أسوة بما يحدث في الأسواق العالمية.
الكاش باك خدعة… والتغليف يحجب الحقيقة ويهدد أموال المشترين»
قال إبراهيم راغب، تاجر ذهب، إن الغلاف الخارجي للسبيكة يمثل «قنبلة موقوتة» قد تُعرّض التاجر والمستهلك لعمليات نصب، مؤكدًا ضرورة تغيير ثقافة الشراء لدى العملاء. وأبدى استغرابه من إصرار البعض على البحث عن أعلى قيمة «كاش باك» دون الالتفات إلى سمعة الجهة المصدِّرة للسبيكة أو درجة موثوقيتها.
وأضاف أنه يشعر بالارتياح عندما يحرص المشترون على فحص السبيكة لحظة الشراء والتأكد من نقائها عبر قص العينة والتثبت من أنها ذهب خالص من الداخل وليست مموهة أو محشوة بالنحاس أو الفضة. وأشار إلى أن بعض العملاء يهدرون أموالهم في سبيل الحصول على مصنعية أقل أو عروض «كاش باك» أكبر، على حساب الجودة والضمان الحقيقي.
ولفت إلى أنه، بوصفه تاجرًا، يحرص على شراء السبائك من الشركات مباشرة أو من تجار الجملة الموثوقين، كما يقبل شراء منتجات المحلات المعروفة شريطة أن يُقدِّم العميل فاتورة أصلية يمكن التحقق منها. وأكد أنه يتجنب تمامًا التعامل مع أي فواتير مشكوك فيها أو سبائك تثير الريبة، حفاظًا على حقوقه وحقوق العملاء على حد سواء.
موقف المصنّعين: الغلاف للحفظ فقط
وأكد عبدالعال سليمة، نائب رئيس شعبة الذهب بكفر الشيخ، أنه كأحد المصنعين يرفض ربط الكاش باك بسلامة الغلاف، ويتبع سياسة ثابتة تقوم على فتح الغلاف وفحص السبيكة قبل شرائها لحماية أمواله وتفادي شراء منتجات مجهولة المصدر.
وأضاف، أن تطبيق هذه السياسة حمى مدخرات المواطنين والعملاء، فبيع وشراء سبائك مغلفة لا يعلم ما بداخلها، يعزز من توسيع نطاق النصب من معدومي الضمير.
دعوات لتدخل حكومي عاجل
يطالب الخبراء وزارة التموين ومصلحة الدمغة والموازين باتخاذ إجراءات فورية، أبرزها، منع اشتراط الإبقاء على الغلاف للحصول على الكاش باك، والسماح بفحص السبائك قبل البيع والشراء دون قيود.
وإلزام الشركات بطباعة كود ليزري فريد على كل سبيكة غير قابل للتلاعب، والحد من إنتاج السبائك الصغيرة لدعم صناعة المشغولات وتشجيع المستهلك على العودة لشراء المشغولات وتشديد الرقابة على ورش إنتاج السبائك المغشوشة ومتابعة مسار تداول الذهب في السوق.
وفي ظل تزايد الاكتشافات اليومية للسبائك المزيفة، يبقى السؤال الأهم، متى تتحرك وزارة التموين لحماية مدخرات المصريين من موجة الغش المقنّع وراء «التغليف»؟














































































